أم كلثوم.. يوم استقبلتها بغداد!

TT

قبل ستة وسبعين عاماً، أي (1932)، زارت السيدة أم كلثوم بغداد، ذلك قبل الانطلاق بمطولاتها: «أنت عمري» وأخواتها الحالمات. واستقبلت من قِبل شيوخ عشائر أشداء، وشعراء فطاحل، وأصحاب عمائم أحبار، وازنوا بين حقوق الدارين، يتحركون ويفكرون بميزان شأنه شأن ميزان الذهب، بالغ الدقة والأمانة، وبهم أخذ ذلك الزمن يتصاعد كالرمح مخترقاً الحواجز، حتى بدأ النزول إلى ما هو الحال عليه! أتذكر تلك الصورة البارزة بديوان أحد الأعمام، التي يقف في وسطها الشيخ سالم الخيَّون (ت 1954)، شيخ قبيلة بني أسد، وإلى جانبه السيدة أم كلثوم، وطاقم القنصلية المصرية. لم تثر تلك الصورة في دواخلنا أي تساؤل واستغراب، حتى اشتهرت السيدة ونمت في جيلنا الذائقة لغنائها، وعمَّ الحزن بوفاتها (3 شباط 1975)، في ذكراها الثالثة والثلاثين قبل ثلاثة أيام، ثم وجدت الصورة نفسها منشورة في كتب وجرائد لا تعليق عليها، سوى عبارة أم كلثوم ببغداد. سألنا حينها كيف تذوق هذا الرجل صوت أم كلثوم، وهو المتمترس بعشائريته والتزامه الاجتماعي والديني، وسعى إلى الترحيب بها بدار القنصلية المصرية مع فرقتها وفي مقدمتهم الشهير محمد القصبجي. كان رئيس العشيرة الأقرب من المرجعية الدينية بالنجف والكاظمية، حيث آل الخالصي، وهو الذي قاطع المجلس التأسيسي، واشترط على الملك فيصل الأول (ت 1933) دخوله المجلس بعودة علماء الدين المنفيين من إيران، وكان له ذلك (الحسني، تاريخ الوزارات). وماذا لو ظل شيخ العشيرة على قيد الحياة وسمع منها: «أغداً ألقاك»، أو «فكروني» مثلاً؟ وكيف كان الزمن ينمو ويتدرج حتى أخذ بالهبوط إلى استجداء صحوات العشائر لتدفع الإرهاب العابث، ومن دون أن يُعرف منها موقف مساند لثقافة أو تأييد لتقدم وذائقة، فيبدو ذلك لم يحن بعد! كذلك ليس لي القدرة على تفسير المفارقة التي كانت عليها النجف، فهي الحاضرة الدينية ذات التزمت الظاهر إلى درجة أنها لا تبيح التصفيق والجلوس على الكراسي، لكنها تلد شيخاً مثل محمد جواد الشبيبي (ت 1944)، والد الستة المحمدين، أسماء أبنائه المركبة: محمد رضا، ومحمد رشاد..الخ، قياساً بواقعها اليوم، حيث إبعاد أي صوت ليبرالي، وتحت عباءة الديمقراطية!

رحب الشبيبي بالسيدة، من دون إهمال مكانته الاجتماعية والدينية، وكان رجل موازنة حقاً: «فهو في الوقت الذي كان يجلس إلى جنب العلامة السعيد في القرن التاسع عشر، عاش فاستقبل أم كلثوم»(الخاقاني، شعراء الغري). وقال فيها قصيدة: «قُمرَيّة الدوح يا ذات الترانيم.. مع النسور على ورد الردى حومي»!

ومن بعده وقف نجله محمد باقر (ت 1960)، بعمامته أيضاً، معجباً بأم كلثوم وبحزب الوفد معاً، حتى أن الأديب المصري زكي مبارك (ت 1952)، الذي عاش ردحاً من الزمن ببغداد، سماه «أبو كلثوم الوفدي»(الهلالي، الشاعر الثائر). جعل الشبيبي السيدة رسولته إلى حزب الوفد طالباً أن يتجاوز انشقاقاته! قال مخاطبها في رباعية، لازمتها: «فهيّا أيتها الغادة.. وغَنيني على العادة». «خذي قلبي إلى الوفد.. فإني في الهوى وفدي».

وكان للعلامة محمد بهجة الأثري (ت 1996)، رئيس ديوان الأوقاف، وتلميذ الفقيه محمود شكري الآلوسي (ت 1924) ترحيبه بأم كلثوم: «روحٌ من الملأ الأعلى يُناجينا.. أم باغم من ظباء الخُلد يشجينا.. سل ساري النَجم عنه كيف قيَّده.. حيران يسمع منه السحر تلحينا». وأبدى الشيخ إبراهيم أدهم الزهاوي (ت 1962)، دارس الفقه، ومن المؤلفين فيه، ترحيبه أيضاً: «أُم كلثوم دولةٌ تتباهى.. أرضُها في جودها وسماها»(الغبان، المعارك الأدبية).

ثم حضر شعراء العراق الأكابر مسرح «الهلال» حيث غنت أم كلثوم (15 نوفمبر 1932) أغانيها وسط بغداد، فحياها جميل صدقي الزهاوي (ت 1936) بما مطلعه: «الفن روض أنيق غير مسؤوم.. وأنت بلبله يا أم كلثوم» إلى: «قالوا كفرت ولم أكفر كما زعموا.. أ كل مَنْ قال حقاً بيننا كفرا»(نفسه). ولمعروف الرصافي (ت 1945) ولآخرين قصائد مرحبات أيضاً.

لكن، شاعر بغداد الشعبي الملا عبود الكرخي (ت 1946)، عاندَ وجعل هجاءه لأم كلثوم وسيلة لهجاء الحكومة آنذاك، عندما قال: «كبلج (قبلكِ) أبو جاسم.. رجع من هل الوطن مثري»(الديوان). ويقصد الموسيقار محمد عبد الوهاب (ت 1991)، الذي زار العراق (1924) وغنى لفيصل الأول: «يا شراعاً وراء دجلة يجري». تلك الديار قبل (76) عاماً، وها هي اليوم وكأن معري صنعاء البردوني قصدها بعجزه: «... مليحةٌ عاشقاها السلُ والجربُ»! ومع ذلك، وعلى قولة، أو ما نُسب، لخالد بن الوليد (ت 21هـ): «عند الصباح يحمد القوم السرى...».