لماذا لم تكن هناك «فينوغراد» لبنانية ؟

TT

كالعادة.. فما أن صدر تقرير «فينوغراد» المتعلق بحرب يوليو 2006 حتى سارع أصحاب «الانتصار الإلهي» وأصحابهم إلى إقامة الأفراح والليالي الملاح.. «لقد اعترفت إسرائيل بهزيمتها وهزيمة جيشها».. وذلك مع أن هذا التقرير ركز على الأخطاء التي ارتكبت خلال هذه الحرب عسكرياً وسياسياً وهو لم يتحدث عن أي هزيمة، وقد كان مجرد مراجعة للحسابات ووقوفاً على الحقائق.

وحتى لا يفهم هذا التركيز على الحقائق بالطرق الملتوية إياها، فإنه لا بد من التأكيد على أنها سعادة ما بعدها سعادة لكل عربي أن يكون حزب الله قد حقق فعلاً «الانتصار الإلهي» الذي يقول انه حققه، فإسرائيل ستبقى عدواً طالما أنها تحتل أرضاً عربية وطالما أنها تضطهد الشعب الفلسطيني، ثم طالما أنها تصر على ألا تكون جزءاً من هذه المنطقة وتصر على عدائها للعرب والتآمر عليهم.

لكن هذا يجب ألاَّ يعني أن علينا أن نحول الأماني إلى حقائق، فتقرير «فينوغراد» لم يتحدث عن هزيمة إسرائيل وجيشها في حرب 2006 بل ركَّز على الأخطاء التي ارتكبت عسكرياً وسياسياً في هذه الحرب، وهو خَلُصَ إلى الحقيقة التي بقيت تبحث عنها لجنة الاستقصاء والتحقيق الإسرائيلية أكثر من عام ونصف العام، وهي أن هذه الحرب لم تحقق النتائج التي كان عليها تحقيقها والتي جعلت الإسرائيليين يقدمون على هذه المغامرة العسكرية.

فما هي هذه النتائج التي لم تحققها هذه الحرب والتي اعتبر تقرير «فينوغراد» عدم تحقيقها تقصيراً في الأداء العسكري والسياسي، ولذلك فهو لم يتحدث لا عن هزيمة عسكرية ولا عن هزيمة سياسية وإنما عن أخطاءٍ ارتكبها السياسيون والعسكريون حالت دون تحقيق ما كان يجب تحقيقه ...؟! .

كان لهذه الحرب بالنسبة للإسرائيليين هدفان معلنان هما :

الأول، تخليص الجنديين اللذين أسرهما حزب الله واللذين ساد اعتقاد أن تخليصهما ليس هو الهدف الحقيقي لهذه الحرب وأن عملية الأسر هذه كانت مجرد حجة لشنِّ هذه الحرب التي لا يزال السيد حسن نصر الله وحلفاؤه المحليون والإقليميون يصرون على أنها كانت مقررة سلفاً وأن واشنطن هي التي اتخذت قرارها لتوجيه ضربة لإيران ورؤوس جسورها المتقدمة في هذه المنطقة.

الثاني، هو دفع حزب الله إلى الخلف نحو عشرة كيلومترات وإبعاد ميليشياته وصواريخه عن خطوط التماس على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، وهنا فإنه لا بد من الإشارة إلى أن الإسرائيليين تحدثوا خلال هذه الحرب عن أنهم سيواصلون القتال إلى أن يقضوا على البنية التحتية لهذا الحزب والى أن يصبح ضعيفاً في المعادلة الداخلية اللبنانية.

فهلْ حققت الحرب هذين الهدفين.؟! .

حسب تقرير «فينوغراد» فإن الأخطاء التي ارتكبتها إسرائيل على المستويين العسكري والسياسي أدت إلى عدم تحقيق هذين الهدفين، هذا مع أن التقرير أشار إلى أن إحدى النتائج المهمة التي تحققت هي أنه بقرار من مجلس الأمن الدولي جرى نشرُ قوات دولية في الشريط الحدودي وبعمق أكثر من عشرة كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية وحيث لم تعد لحزب الله لا قوات ولا صواريخ في هذه المنطقة وهكذا فإن مطلباً إسرائيلياً رئيسياً قد تحقق !! .

إن ما كان على حزب الله أن يدركه وأن يتوقف عنده، قبل أن يحتفل كل هذا الاحتفال باعتراف إسرائيل المزعوم بهزيمة هي في حقيقة الأمر لم تعترف بها وإنما اعترفت بأخطاء ونواقص وتقصير، هو أن الإسرائيليين بادروا، كما فعلوا بعد حرب أكتوبر 1973 وكما بقوا يفعلون بعد كل حرب من حروبهم ضد العرب، إلى تشكيل لجنة «فينوغراد» هذه التي لم تصدر الحكم الذي أصدرته يوم الأربعاء قبل الماضي إلا بعد تقصيات وبعد تحقيقات استغرقت عاماً ونصف العام وشملت العشرات بل المئات من العسكريين والمدنيين جرت كلها بسرية تامة وبدون تدخل أي جهة من الجهات المتنفذة .

وبالمقابل ماذا فعل حزب الله.؟! .

لم تخسر إسرائيل سوى ثلاثين عسكرياً ونحو أربعين مدنياً معظمهم من عرب الـ 48 الفلسطينيين، ولكن مع ذلك فإن لجنة «فينوغراد» التي شكلتها لم تترك لا شاردة ولا واردة وهي تبحث عن الأخطاء التي أُرتكبت والتقصير الذي حصل. أما حزب الله، الذي كان بإمكانه تفادي هذه الحرب التي استدرجها هو استدراجاً فإنه اعتبر نفسه ليس منتصراً فحسب بل وأنه حقق انتصاراً إلهياً وذلك رغم كل الدمار والخراب الذي لحق بلبنان ورغم استشهاد أكثر من ألف مدني لبناني، ورغم الخسائر الفادحة التي لحقت بجهازه العسكري، فإنه لم يبادر إلى تشكيل حتى هيئة تحقيق حزبية، ولو من قبيل حفظ ماء الوجه واحترام اللبنانيين الذين فقدوا أحبتهم والذين كانت خسائرهم المادية كبيرة.

إن هذا هو الجانب المهم في تقرير «فينوغراد»، وكان على حزب الله أن يقلِّد إسرائيل ولو شكلياً، ولو من قبيل الضحك على ذقون اللبنانيين الطيبين الذين لا يزال هذا الحزب يحقنهم حقناً بمخدر «الانتصار الإلهي» ويمنعهم من الكلام لأن التشكيك بهذا «الانتصار الإلهي» كفر ما بعده كفر، لكنه لم يفعل هذا بل نقل قواته التي أُخرجت من الجنوب وحلَّت محلها القوات الدولية لتضرب خيمها في ساحة رياض الصلح في قلب بيروت وتحاصر «سراي» حكومة فؤاد السنيورة التي كان وصفها الرئيس السوري بشار الأسد بأنها «منتجٌ إسرائيلي» !! وأعلن الحرب عليها لإسقاطها.. وهذا هو سبب كل هذا الذي جرى منذ ذلك الحين وحتى الآن.

لم يلتقط حزب الله الحلقة الرئيسية في تقرير «فينوغراد»، وهي حلقة محاسبة النفس والبحث عن الدروس التي يجب الاستفادة منها، وهكذا فهو، بعدم الاعتراف بالأخطاء وعدم السماح للبنانيين بالحديث عن هذه الأخطاء ومواجهة كل من طالب بالتحقيق في حرب 2006 التي كانت بالنسبة للبنان بالمحصلة كارثة ما بعدها كارثة بتهمة العمالة لأميركا وإسرائيل، قد حرص على ألا يشذ عن القاعدة العربية المعروفة حيث نقد الذات جريمة وحيث المطالبة بمعرفة الحقيقة تآمر وعمالة للعدو الصهيوني و«الاستكبار العالمي»!!.

لو أن «الانتصار الإلهي» الذي حققه حزب الله أُخضع لتحقيقات لجنة كلجنة «فينوغراد»، ولو شكلياً ومن قبيل الضحك على ذقون الطيبين والبسطاء، لحقَّ للسيد حسن نصر الله أن يعتبر أن إسرائيل اعترفت بهزيمتها، ولحقَّ له أن يقيم الأفراح والليالي الملاح من جديد.. أما وأن الكلام بالنسبة لكل ما لحق بلبنان من خراب ودمار وبالنسبة لما حل بالشعب اللبناني من ويلات في هذه الحرب ممنوع ومحرم ودونه جزّ الحلاقيم فإن الذي انتصر هو إسرائيل وذلك لأن أهم انتصار هو نقد النفس وهو اكتشاف الأخطاء وهو معرفة الحقائق وحتى وإن كانت مؤلمة!!.