ساركوزي بين روما .. والرياض

TT

ما الذي فعله نيكولا ساركوزي أخيرا حتى أثار هائجة المثقفين الفرنسيين يمينا ويسارا؟ كلهم نزلوا الى الساحة للرد عليه بعد أن ألقى خطابين كبيرين، الأول في قصر لاتران البابوي بروما، وأمام حشد من كبار الكرادلة (20 ديسمبر 2007)، والثاني أمام مجلس الشورى السعودي وكبار المسؤولين بالرياض (14 يناير 2008). وبين الخطابين مسافة أقل من شهر. وكلاهما يتحدث عن الدين بطريقة حماسية لم يألفها رؤساء فرنسا العلمانيون منذ ديغول على الأقل. كنا نعرف أن الرجل ميال الى الدين أكثر من سواه من القادة الفرنسيين. وربما كان ذلك لأسباب شخصية عندما شكل الدين حصانة نفسية وحماية له أثناء تعرضه لهزات عائلية كادت تعصف به.. وربما كان يعود الى تربيته الدينية الكاثوليكية إبان الطفولة.. مهما يكن من أمر فإن الرجل مدح الايمان الديني مدحا كبيرا، سواء في خطابه الأول أو في الخطاب الثاني. وقد أخاف بذلك بعض المثقفين الفرنسيين كريجيس دوبريه الذي رد عليه على صفحات جريدة اللوموند، أو كجان دانييل الذي لا يزال يرد عليه حتى الآن على صفحات النوفيل اوبسرفاتور، أو كآخرين عديدين. وهؤلاء ليسوا ضد الدين في المطلق، لكنهم يرفضون خلط الدين بالسياسة أو تخلي رئيس الجمهورية الفرنسية عن حياده العلماني ولبسه لبوس الرهبان المسيحيين!.. بالطبع فإن ساركوزي لم يتحول الى رجل دين ولم يتنكر للعلمانية المنفتحة أو الايجابية على حد تعبيره، وإنما هاجم العلمانية المتطرفة التي قضت على المسيحية في فرنسا والغرب ككل، اذا ما استثنينا الولايات المتحدة، حيث لا يزال الدين منتعشا قويا، على الأقل في الولايات الجنوبية منها. لكي يفهم القارئ العربي الأمور على حقيقتها ينبغي ان نشرح له الفرق بين السياق الأوروبي والسياق العربي ـ الاسلامي. ففي اوروبا هناك جوع للدين والروحانيات من كثرة ما همشوا الدين ونقدوه وأزاحوه مع رجالاته عن الساحة العامة للمجتمع. ولا وجود للدين في أي مكان تقريبا هنا. ويكفي ان يفتح رجل دين فمه على شاشة التلفزيون ـ وهو شيء يحصل نادرا ـ لكي يستهزءوا به وبكلامه حتى قبل ان يقول شيئا.. اما عندنا فالوضع معاكس تماما. عندنا هناك هيمنة طاغية لرجال الدين، سواء في المدرسة أو الجامعة، هذا ناهيك عن الجامع والفضائيات التلفزيونية الكبرى.. وبالتالي فبقدر ما نتوق نحن الى التحرر الفكري من قيود الماضي وأصولياته المرعبة والخانقة بقدر ما يتوقون هم الى دينهم الذي طمسوه طمسا واجتثوه تقريبا من حياتهم وفرغوا مجتمعهم منه.

لكي أوضح ما أقصده بشكل محسوس سوف أضرب المثل التالي: تقول آخر استطلاعات الرأي العام في فرنسا ما يلي: 51% من الفرنسيين لا يزالون يقبلون بأن يقال عنهم بأنهم مسيحيون وكاثوليك. ولكن فقط نصفهم يعلن أنه يؤمن بالله! وبالتالي فما هو الانتماء الديني؟ انه مجرد انتماء سوسيولجي أو تاريخي محض. والأنكى من ذلك هو ان 8% فقط من هؤلاء الاخيرين يمارسون الطقوس المسيحية او يذهبون الى الكنيسة مرة واحدة في الأسبوع على الأقل.. وبالتالي فما هو هذا التدين المخيف يا ترى؟ وأين هي هذه الأغلبية الكاثوليكية التي يتحدثون عنها في فرنسا؟ انها مجرد ذكرى.. لقد انتهى الدين بالمعنى التقليدي للكلمة في البلدان الصناعية الغنية المترفة القائمة على فلسفة اللذة والمتعة والحياة الاستهلاكية المترفة.

ضمن هذا الجو تجيء صرخة ساركوزي لكي تذكر الناس بالقيم الروحية والأخلاقية للدين وانه كانت هناك في يوم من الايام عقيدة مسيحية في فرنسا، لذلك ركز على هذه الأشياء كثيرا في خطاب لاتران بروما.

أما في الرياض فقد ركز اكثر على الجانب الآخر من الدين. لقد توقف مطولا عند قيم التسامح والانفتاح، محذرا من تشويه الدين أو حرفه عن مساره الصحيح ومقاصده النبيلة. وقال ان ذلك حصل كثيرا على مدار التاريخ. وفرّق بين العاطفة الدينية السامية وبين الاستغلال السياسي لها عن طريق التعصب الأعمى والبربرية الجديدة، ثم توقف مطولا عند السياسة الحضارية للعرب عندما كانت لهم أمجاد وحضارات. وهذا من أفضل المقاطع في خطابه وأكثرها توفيقا. واعترف بأن علماء المسلمين كانوا قادة الأمم عندما انخرطوا في ترجمة ارسطو وأفلاطون ووفقوا بين الفلسفة العقلانية ورسالة الاسلام السمحة المتسامحة، وبالتالي فالسياسة الحضارية هي تلك التي انتهجها العرب المسلمون سابقا والتي ينتهجها حاليا كل من يعمل من اجل اسلام منفتح عقلاني، يليق بعصوره المجيدة السابقة. نعم لقد سبق المسلمون الآخرين الى النور والتنوير عندما كانوا رواد الفكر في كافة المجالات، وعندما كانوا يفهمون الدين بطريقة مختلفة جذريا عما هو سائد الآن وطيلة عصور الانحطاط الطويلة.