أسئلة ما قبل تسونامي الاقتصاد العالمي وانهياره

TT

الشعوب تتعلم «على حسابها» ولكل شيء ثمنه. وهذا الثمن يدفع أو يحصل، آجلا أم عاجلا. ويخطئ الذين يعتقدون بأنه من الممكن تفادي تأدية ثمن الطموح، مشروعا كان أم «جنونيا». ولم يعرف التاريخ أمة أو شعبا أو دولة، لم يعقب نهوضها وهيمنتها، على غيرها من الشعوب والأمم، تراجع أو انحطاط. أو نظام حكم صمد أو تغلب على التطور البشري الاجتماعي والاقتصادي.

هذا بعض ما يتبادر إلى الذهن، أمام ما يحدث اليوم من غرائب الأمور وعجائبها وتناقضاتها: ابتداء من «إحراق الدواليب» في ضواحي بيروت «احتجاجا على قطع الكهرباء»، وانتهاء بالأزمة المالية والاقتصادية الكبرى التي تهدد الاقتصاد الغربي، وبالتالي العالمي، مرورا بكل النقاط الساخنة، و«المعارك العبثية» في العالم كالعراق وأفغانستان وباكستان وكينيا وفلسطين ولبنان و.. الانتخابات الاميركية.

فمن كان يتصور أن موظفا عاديا في مصرف يستطيع بالضغط على أزرار كومبيوتره، تكبيد مصرفه خسارة تقدر بسبعة مليارات من الدولارات؟ أو أن دولا «صغيرة»، كسنغافورة والإمارات وقطر،«تنجد» اكبر المصارف والشركات الاميركية، بالمال، مجنبة إياها الانهيار؟ أو أن ودائع الصين (الشيوعية، رسميا ومبدئيا) بالدولارات، الموظفة في الولايات المتحدة، هي التي «تسند» الاقتصاد الاميركي؟. لا «كارل ماركس» ولا «كينز» ولا أي منظر اقتصادي أورد في كتبه حالات اقتصادية كالتي يعيشها العالم اليوم. ولكن بالرغم من كل ذلك، لا تزال هناك، في الغرب والشرق، أحزاب تتنافس على الحكم وعلى تسيير الاقتصاد على قواعد كانت متبعة في القرن التاسع عشر، حتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار الاشتراكية ـ الماركسية.

إن أكثر من ثلث الاقتصاد الاميركي يقوم اليوم على صناعات لم تكن موجودة منذ عشرين سنة (تكنولوجيا التواصل والمواصلات). كما أن دوران الاقتصاد العالمي بات اليوم يختلف كثيرا عنه في القرن العشرين.

صحيح أن الليبرالية الاقتصادية واقتصاد السوق والمنافسة، وما سمي بالعولمة، هي الشعارات التي تبنتها معظم دول العالم في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، بعد تمزق ستار الوهم الشيوعي، ولكن هذا النظام الاقتصادي العالمي الجديد لم يحقق أيا من غاياته المعلنة ولا أهدافه القريبة، بل وسع الهوة بين الأغنياء والفقراء في العالم، وأوقع الثروات العالمية بين يدي مجموعة من المصارف والمضاربين على الأسهم والعملات، همهم تحقيق الأرباح بأسرع وقت، سواء أفلست بنوك، أم انهارت العملات، أم تضرر اقتصاد هذه الدولة أو تلك، أم ازداد افتقار شعوب العالم الثالث.

لقد التقى «أقطاب» الاقتصاد العالمي في منتجع دافوس، كما يفعلون كل عام، لجس نبض هذا الاقتصاد العالمي الجديد وتبصر اتجاهاته ونواقصه واقتراح الحلول لمشاكله. ولكن صدى «الكوارث» المالية التي حلت ببعض المصارف الاميركية والأوروبية الكبرى، من جراء انهيار أسهم الرهونات العقارية، كان أعلى من كل الخطب والمحاضرات التي ألقيت في هذا المنتدى، وغطى على كل النظريات والاقتراحات. ولقد اكدت هذه الكوارث المالية أن الليبرالية الاقتصادية، في صيغتها الأخيرة المعولمة، رغم انتصارها على اقتصاد الشيوعية الاشتراكية، لم تحل مشاكل المجتمعات البشرية، ولم تحمل إلى العالم الازدهار والاستقرار، أو حتى التقدم الموعود، مثلما تبين أن «التاريخ لم يصل إلى حده» كما ادعى فوكوياما.

كثيرون هم اليوم الشامتون بالولايات المتحدة والمشككون بمستقبل دورها الاقتصادي في العالم، بعد تدني سعر الدولار، وتراكم ديون الدولة، وتزايد إنفاقها الحربي. ولكن هؤلاء يعرفون جيدا أن الاقتصاد العالمي برمته مرتبط بالاقتصاد الاميركي ـ حتى الآن على الأقل ـ وأن انهيار هذا الأخير سيكون شديد التأثير على اقتصادات معظم دول العالم. وربما إلى انهيارها معه. ولذلك لا عجب إنْ سارعت دولة كالصين، وغيرها من الدول، إلى «نجدة» بعض المصارف الاميركية بالمال، ولم تتخل عن الدولار، وأبقت ودائعها وتوظيفاتها في الولايات المتحدة. فهذه «السندة» المالية إنما هي بوليصة تأمين على مستقبلها المالي والاقتصادي، ضد انهيار الاقتصاد الاميركي.

لقد كثر الحديث أخيرا عن أزمة اقتصادية اميركية، فعالمية، شبيهة بأزمة 1929. إلا أن خبراء اقتصاديين مرموقين استبعدوا حدوثها، نظرا لتطور وسائل التدخل الحكومي والدولي السريع، الحائل دون تفاقم أي أزمة من هذا النوع. ولكن هذا لا ينفي وجود أخطار حقيقية جاثمة فوق الاقتصاد العالمي، بل واقتصاد كل دولة، في زمن العولمة والليبرالية واقتصاد السوق والمنافسة الحرة. وهي أخطار لا يجوز لأي دولة تجاهلها، ولا للمنظمات والمؤسسات الدولية عدم العكوف على معالجتها وتداركها.

بعد تبدد أحلام «الفردوس الشيوعي الموعود»، و«انتصار» الرأسمالية الليبرالية، ودخول العالم في هذا النظام الجديد الذي يحمل عنوان «العولمة»، لم ينته التاريخ ولم تتوقف النزاعات ولا الحروب في العالم، بل انتقلت الى داخل دول عديدة تحت شعارات دينية وطائفية وعرقية وطبقية وثقافية وحضارية، كانت قد تراجعت وراء «الولاء للوطن» و«المواطنة»، في ظل نظام «الدولة ـ الأمة». وها هي تجربة الليبرالية الاقتصادية التنافسية تتعثر اليوم، بل وتقع في مطبات مهددة للواقع الاقتصادي العالمي. فهل تتدارك الدول الثماني الكبرى (والصين والهند معها) كارثة شبيهة بكارثة 1929؟ بل هل هي قادرة على التفاهم والاتفاق على الحلول التي تحفظ للاقتصاد العالمي متانته وازدهاره؟ أم أن التنافس بينها سوف يدفعها إلى ازدواجية المواقف، وبالتالي إلى إفساد أو تعطيل قراراتها؟ وهل ستأخذ هذه الدول «الكبرى» بعين الاعتبار مصلحة المائة وثمانين دولة أخرى في العالم، ولا سيما المتخلفة اقتصاديا واجتماعيا، في أفريقيا وآسيا؟

العولمة ليست خيارا سياسيا ولا شعارا ترفعه الولايات المتحدة لخدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية، بل هي «قدر العالم» بعد أن دخل عصر التكنولوجيا المتطورة (التي تسمح لرجل ينقر على أزرار الكومبيوتر أن يحقق أرباحا ـ أو يكبد خسائر ـ مالية تساوي إنتاج عشر دول افريقية). وبعد أن باتت التحديات المناخية والبيئية تهدد كل أبناء البشرية، وبعد أن بلغت الأموال غير الملموسة والمتنقلة في الجو، بين بورصات نيويورك ولندن وباريس وهونغ كونغ وزيوريخ، وبعض الدول الخليجية، مئات بل آلاف المليارات يوميا.

ففي عالم كهذا العالم، واقتصاد كهذا الاقتصاد، يصعب جدا اكتشاف مواقع الضعف والخطر في النظام الاقتصادي المالي العالمي الراهن. وحتى لو اكتشفت فإن معالجتها تتطلب خيارات وقرارات يصعب على الشعوب تقبلها.

وفي هذا الوقت، تحرق الدواليب في شوارع بيروت.. وينبش بعض المفكرين والسياسيين العرب والمسلمين خلافات تاريخية حدثت منذ خمسة عشر قرنا.. ليتقاتلوا تحت راياتها ؟!