استباقا لامتحان تضارب المصالح

TT

تزاحم الاحداث على الساحة اللبنانية بهذه الوتيرة غير المسبوقة ـ في زمن السلم الاهلي على الاقل ـ جعلت وقع الحدث الفردي يطغى على الخلفية التسلسلية للسيناريو طويل الامد الذي يتحرك في إطاره بخطى مبرمجة على وقع رد الفعل على كل فعل أمني ـ سياسي.

والقلق مما تخبئه ايامهم الحبلى بالأحداث يدفع اللبنانيين الى التركيز، عفويا، على الحدث والإبقاء على آمالهم معقودة على ان تنتهي أزمتهم بانتخاب رئيس للدولة قادر على لملمة مكوناتها المتناثرة شرقا وغربا.. فيما مسلسل الاحداث يكشف، يوما إثر يوم، ان الاستحقاق الرئاسي بات تفصيلا صغيرا في مخطط كبير محطته الاخيرة إلغاء الدولة «المستقلة» في لبنان برمتها، وليس فقط استحقاقها الرئاسي، لمصلحة «قوى الأمر الواقع» ومن وراء «قوى الامر الواقع».

حتى الآن يتخذ مخطط الغاء «الدولة المستقلة» ـ المستمر تنفيذه بإصرار بلغ حد إشعال نار الحرب الاهلية من جديد ـ منهجين متلازمين: إما تسليط الأقلية المعارضة على الحكم عبر منحها حق «الفيتو» على قرارات الاكثرية (الثلث المعطل)، أو تكريس الفراغ الرئاسي كأمر واقع قد يطول أو يقصر تبعا لقدرة التطورات الاقليمية والتهويلات الداخلية على تمكين الاقلية من فرض رئيس مطواع على لبنان.

إتاحة الفرصة الكافية للأقلية لتنفيذ أي من مخططي «وضع اليد» على السلطة استوجب طرحها لشعار المرحلة المؤلمة التي يمر بها لبنان الآن: ضرب المؤسسة الوحيدة المؤهلة لان تكون نواة الدولة المركزية المستقلة وعمودها الفقري، أي المؤسسة العسكرية، لصالح «الدولة الموازية»، المشكلة اصلا، وجيشها الفئوي.

وقد تكون الملاحظة التي تطرح نفسها في هذا السياق هي: إذا كان قيام الدولة المركزية فرضية قد تصح أو لا تصح كاملة وغير منقوصة في حال وصول مرشح «مدني» الى سدة الرئاسة، فان فرص قيامها تصبح أفضل بكثير في حال وصول عسكري الى قصر بعبدا ولسبب رئيسي هو أن وصول «العسكري» سيكون بداية «تضارب مصالح»Conflict of Interests)) بين مشروعين متصادمين حكما على الساحة اللبنانية، فلا ميليشيا قوى «الأمر الواقع» مستعدة للتعايش مع مؤسسة عسكرية رسمية لا بد وان يتعارض تقويمها للمصلحة اللبنانية الاستراتيجية في الشرق الاوسط مع تقويم قوى «الامر الواقع» ـ والعواصم الاقليمية المتحالفة معها ـ ولا الجيش في وارد أن يقبل، الى أبد الآبدين، «مقاسمة» جيش فئوي غير شرعي لمهامه الوطنية ودوره الرسمي في لبنان، خصوصا إذا كان قائده رئيس البلاد.

وفي هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان لن تقتصر ابعاد وصول «عسكري» الى الرئاسة اللبنانية على هذا الامر فحسب، فقائد الجيش هو راعي المؤسسة الشرعية الوحيدة غير منقسمة على نفسها وغير الملطخة بتهم الانحياز الى أي جهة داخلية... ما يتيح له ان يلعب دورا يتخطى الدور الذي لعبه الرئيس الراحل فؤاد شهاب، بعد أحداث العام 1958، الى الدور الذي لعبه كمال أتاتورك في تركيا بعد الحرب العالمية الاولى: توحيد البلاد على قاعدة وطنية بالدرجة الاولى.

وعلى الصعيد السياسي الضيّق (وهو معطى لا يمكن تجاهله في حسابات العديد من السياسيين اللبنانيين)، سيصبح العماد سليمان، في حال انتخابه رئيسا، منافسا قويا لزعامة الحليف الاساسي لقوى «الامر الواقع»، الجنرال ميشال عون، خصوصا في المنطقة التي يعتبرها عون داخلة في عقر بيته العائلي ـ السياسي، أي منطقة جبيل التي ينتمي العماد سليمان اليها. وعلى صعيد المؤسسة العسكرية نفسها، لايزال الجيش، بحكم تكوينه وعقيدته، المؤسسة الرسمية الممثلة بامتياز للبنان التعددي والمعبرة في الكثير من بياناتها عن التزامها به.

ربما كان شعور قوى «الامر الواقع» بأن الحصيلة النهائية لامتحان «تضارب المصالح» مع المؤسسة العسكرية لن تكون لصالحها وراء قرارها استباق هذا الامتحان الداهم بحملة تشكيك مبرمجة في حياد الجيش اللبناني وفي الطابع التوافقي لترشيح قائده ... علها تنجح في إطالة عهد الفراغ الرئاسي بصرف النظر عما يعنيه ذلك من مخاطر على لبنان واللبنانيين.