غوص في بحور الأزمة

TT

أود بادئ ذي بدء أن أعتذر للقراء عن خطأ مطبعي في مقالي السابق، ولعل القارئ قد صححه من تلقاء نفسه، فعندما تحدثت عن جهود لتوحيد صفوف الفلسطينيين كان المقصود طبعا جهودا مصرية وسعودية وليس جهوداً مصرية وسورية. كما أن سقوط بعض الأسطر لم يكن من شأنه تشويه المعنى ولكن التنويه واجب احتراماً للقارئ. وما زالت الجهود التي أشرت إليها واجبة مهما كانت الأخطاء التي ارتكبها وما زال يرتكبها طرف أو آخر وعلى الرغم من تصريحات تصدر من غزة أو من رام الله كان الأجدر ألا تصدر.

وبعد هذه المقدمة أريد أن أعود إلى الموضوع الأصلي الذي يشغلني كما يشغل كل حريص على وطنيته وقوميته اتصالاً بما سميته أزمة المعبر والتي كادت تستفحل، وما زالت محاولات تبذل من بعض الجهات لجعلها تستفحل. لولا حكمة رئيس مصر الذي اتخذ وما زال يتخذ باستمرار الموقف والقرار الذي يحقق التوازن الدقيق بين جميع الاعتبارات دون أن يتأثر بأصوات تصدر كثيراً عن الهوى فتثير الزوابع والعواصف وكأنها ـ برغم اتجاهاتها المتباينة وأغراضها المتنوعة ـ تركب موجة من بث الكراهية تذكرني بحالات سابقة ـ لعلي كنت بغير إرادتي لدى زيارةٍ لي للقدس ـ القشة التي حاول البعض استغلالها لتقصم ظهر علاقة مصرية فلسطينية استطاعت دائماً أن تتجاوز أعاصير وأخطاء وصلت أحياناً الى حد الجرائم، ولكنها تلاشت لأن الأهم أبقى مما هو أقل أهمية، ولأن التناقضات الفرعية انزوت أمام التناقضات الأساسية. ولست أريد أن استطرد في هذا الحديث ـ الذي هو ليس رداً على أحد بالذات. ولكنه توصيف لحالة أعتقد أنها احتقنت بفعل فاعل أو فاعلين، وأمكن في كل مرة تخفيف احتقانها بفضل قيادة مصرية واعية وحكيمة تحملت مسؤوليتها الوطنية القومية.

أولا: لا أعرف إن كنت في حاجة إلى أن أكرر أني لست من المتحمسين لحماس لأسباب قد تكون آيديولوجية بالدرجة الأولى بسبب الاختلاف في تصور المجتمعات العربية التي نريدها متدينة، ولكن ليست دينية، مدنية ولكن ليست معادية للدين الذي هو لله، وبالتالي هو علاقة بين الفرد وربه.

ولعليَّ أيضاً اختلف مع أساليبهم ولا أبرِّئهم من أخطاء، كما لا أبرئ فتح ـ التي أحمل لها في قلبي منذ الشهيد عرفات حتى الرئيس أبو مازن الذي أعتز بعلاقة قديمة معه، تقديراً لا يحرمني ولا يجب أن يحرم أحداً من حق النقد الذي تزداد حدته أحياناً بقدر ازدياد المحبة. واعتقد جازماً أن الاختلاف بين الفلسطينيين على دولة، لم تقم بعد، هو عائق أمام تحقيق أمل الدولة، ويفتح الباب أمام مؤامرات المتآمرين على فكرة الدولة ذاتها، وإن تجاوز الاختلافات ـ وهو ما تسعى إليه مصر ـ وتأجيل قيام الدولة إلى حين تستقل فلسطين في حدود 1967 وعاصمتها القدس هو الموقف الشريف الوطني الوحيد ولا يجب أن يكون غيره مسموحاً به. ويقع عبء هذا على الجانبين معاً ـ مهما كان التقييم لما حدث ـ ولذلك فقد دهشت لعدم استجابة السلطة الفلسطينية لترتيبات مصرية لعقد لقاء بين فتح وحماس. فمهما اقتضى هذا اللقاء من تنازلات فهي تنازلات للصالح الوطني والقومي الذي يجب أن يعلو فوق كل اعتبار. ومرة أخرى دون شوفينية أقول إن مصر في دعوتها تجاوزت عن كثير من مشاعر الأسى والغضب إزاء بعض ما حدث على الحدود المصرية ـ الفلسطينية.

ثانياً: إني أرفض من يبررون لحماس أو لفتح أي تصرف سواء كان خطأ أو صواباً، وأدرك كذلك أن هناك للأسف مَنْ ينظرون الى الصورة بـ«زوم» zoom حول تصرفات بعض الفلسطينيين على الحدود أو داخل أراضي مصر نرفضها وندينها ونعرف أيضاً أنها صدرت عن قلة سواء كانت متآمرة أو لم تكن، ولكنها بالقطع قلة لأن غالبية من عبروا فعلوا ذلك لأنهم في معاناتهم كان من الطبيعي أن ينظروا إلى مصر كما كان من الطبيعي لمصر أن تفتح لهم أبوابها لتفك أزمتهم على أن يعودوا بعد ذلك ـ كما فعل أغلبهم ـ إلى أرضهم.

وفي كل الأحوال يجب ألا ننسى أن المؤامرة الإسرائيلية موجودة ومستمرة. فإسرائيل تريد تيئيس الفلسطينيين عن طريق القتل والتجويع والاضطهاد لتدفعهم إلى تصرفات تؤدي إلى هدفهم الثاني، وهو الوقيعة بين مصر والفلسطينيين. وجزء من المؤامرة هو إحياء أفكار استعمارية لخلق دويلة فلسطينية في سيناء، أو اقتطاع جزء من سيناء لضمه لغزة مع التلويح بإعطاء أرض بديلة لمصر في صحراء النقب، كأن مصر مستعدة للمقايضة على أي شبر من أرضها التي حاربت بالسلاح والدبلوماسية والقانون لاستردادها. وقد تصدت مصر لهذه التخطيطات مؤكدة تصميمها على رفض أيِّ مساس بحدودها وأنها عندما سمحت باجتيازها ـ وليس باجتياحها ـ فإنها فعلت ذلك لغرض محدود ولفترة محددة تعود بعدها الأمور إلى طبيعتها، آخذة في الاعتبار أن ما حدث يحتاج إلى إعادة النظر في بروتوكول المعابر لضمان فعاليته وتحقيقه للهدف منه، وهو فك أسر الشعب الفلسطيني وضمان أمن مصر. وهذا لا يمكن حدوثه إلا بتوحيد الصف الفلسطيني، ثم لفت نظر العالم إلى حقيقة ما حدث نتيجة لسياسات وممارسات إسرائيلية، وتنحِّي أوروبا عن واجب أنيط بها ثقة بقدرتها على الالتزام به، فإذا بها تميل إلى دور «الشاهد الأخرس» الذي يرفض النطق بالحق. وليس من المقبول في هذه الظروف أن يكون البعض على استعداد ليبلعوا الظلط (أي الحجارة) لإسرائيل ولإلقاء كل الحجارة على الفلسطينيين عامة وعلى حماس خاصة ـ ولعلي أشير هنا إلى ما أوردته هذه الصحيفة التي أتشرف بالكتابة فيها ـ أنه أثناء الأحداث المؤسفة والمؤلمة والتي تثير الغضب ـ والتي وقعت من بعض الفلسطينيين عقب إعادة إغلاق المعابر بعد تجاوز أزمة الحاجة الملحة إلى حين وضع الترتيبات اللازمة لضمان عودة الأمور إلى طبيعتها ـ أقول انه أثناء تلك الاحداث، فإن قوات الأمن الفلسطينية تدخلت لوقف أعمال طائشة وحمقاء وغير مقبولة من بعض الأفراد الذين يعلم الله حقيقة دوافعهم.

ثالثاً: اتصالاً بكل هذا، فإني أستغرب من يحاولون التقليل من مسؤولية إسرائيل عن المعاناة اللا إنسانية التي واجهها سكان غزة. فحقيقة الحصار لا تقبل الجدل، وحقيقة قطع الإمداد بالوقود اللازم لتسيير محطات الكهرباء أقر بها المسؤولون أنفسهم، وحملات القتل والتدمير مستمرة ليس فقط في غزة بل أيضا في الضفة. وعلى الرغم من ذلك، فإن واشنطن أعاقت إصدار بيان رئاسي من مجلس الأمن يدين مثل تلك الممارسات التي لو أتى ما هو أقل منها بكثير من دولة غير إسرائيل لسارعت واشنطن لحشد الأصوات لاستصدار بيان بل قرار شديد بفرض عقوبات مشددة ودق طبول الحرب إن لزم ذلك.

رابعا: بقيت نقطة لا أجد نفسي قادرا على التغاضي عنها إزاء موجات الاستهزاء بالمقاومة التي نسمعها ونقرأها. وأود في هذا الصدد أن أقول اني أول من يقر بأن هناك وقتا للمقاومة بالقتال، وهناك وقت للمقاومة بأساليب أخرى سلبية أو ايجابية، وأنه من الحصافة اختيار الأسلوب المناسب فى التوقيت المناسب، ولكني أشير إلى أن الشعوب التي تقاوم عادة ما تكون أضعف من المحتل أو المستعمر أو المعتدي الذي تقاومه، وأنها بالمقاومة لا تستهدف هزيمته ولكن تكفي مضايقته وإزعاجه وزيادة تكاليف العدوان سواء في الأفراد أو المعدات أو الاضطرار الى التعبئة المتكررة أو إجهاد قواته بحيث تكون النتيجة في النهاية وضعه موضع المفاضلة بين الاستمرار في تحمل التكلفة السياسية والمادية أو البحث عن تسوية.

واعتقد أن هذه قاعدة تكاد تكون مستقرة وتجعل الاستهزاء من أي مقاومة مهما كان ضعفها النسبي تجاهلا لحقائق لها أمثلة كثيرة في التاريخ، ابتداء من مقاومة الماو ماو إلى مقاومة الفيتناميين، مرورا بدرجات متفاوتة من المقاومة سواء بالرماح أو السهام أو «المواسير» كما أطلق البعض على صواريخ القسام أو الحجارة.

خامسا: إن حدودنا مقدسة، وأمننا الوطني مقدس والحفاظ عليه لا يتم في فراغ، بل إنه يتطلب بالإضافة إلى اعتبارات داخلية لخصها الرئيس مبارك في خطابه أمام مجلسي الشعب والشورى في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإنما أيضا اعتبارات تمتد إلى المحيط الإقليمي، وأنا أعرف أن للصبر حدوداً، ولكن طول حبال ذلك الصبر يختلف إذا كان في مواجهة شقيق أو صديق أو من ليس شقيقا أو صديقا، وفي النهاية يجب ألا تعمينا اللحظة على ما فيها مما يجلب الألم ويستحق اللوم، عن النظرة الأشمل للزمن في امتداده وللمستقبل في استشرافه وللصورة في شمولها، وليس في جزء صغير منها قد يكون كالشجرة التي تخفي الغابة.