دين تحت الطلب

TT

فجر دانيال بايبس أحد المقربين من مركز القرار الأمريكي ومن أكثرهم تعصبا ضد العرب والمسلمين، ضجة هائلة في الآونة الأخيرة في خضم الحملة الانتخابية الراهنة حول إسلام المرشح الديمقراطي الأسود باراك اوباما الذي تزايدت حظوظه في الفوز بثقة ناخبي حزبه في الاستحقاقات التمهيدية الحالية.

تساءل بايبس في مجلة «Front Page»، هل يخفي اوباما إسلامه؟، واعتبر أن الرجل ولد لأب مسلم من كينيا وعاش طفولته في اندونيسيا حيث سجل في المدرسة بصفته مسلما وكان يرتاد المساجد فيها، ولذا ثمة شكوك حول عقيدته المسيحية التي يدعيها.

ولقد وجد اوباما نفسه مرغما على تفنيد هذه التهمة التي من شأنها ان تضر به في مجتمع شديد التدين، تبين استطلاعات الرأي فيه النفور العارم من الإسلام والمسلمين.

كتب اوباما في موقع حملته الالكتروني انه لم يكن يوما مسلما وان كان أبوه متحدرا من قرية تضم الكثير من المسلمين، على الرغم من انه لم يكن ممارسا للدين ولا مواظبا على شعائره. وقد انفصل والده عن أمه المسيحية التي تولت تربيته على دينها، ولم يتأثر بإقامته في اندونيسيا التي كان يعيش فيها مع والدته بديانة المجتمع الإسلامية.

وشغلت الصحافة الأمريكية بالموضوع، وتولت مجلة التايمز الواسعة الانتشار الجانب الأوفر من تناوله. وقد أصبح اوباما في الفترة الأخيرة حريصا على إظهار تعلقه بعقيدته المسيحية، وانتمائه لطائفة «عقيدة المسيح الموحدة» التي تقف على خط التصادم مع اليمين الإنجيلي المحافظ. بل انه استطاع استمالة جانب واسع من المجموعات الانجيلية المساندة تقليديا للحزب الجمهوري.

ولم تجد منافسة اوباما السيدة هيلاري كلينتون بدا من خوض المعركة على الأرضية الدينية ذاتها، مظهرة نزعة عقدية وتعبدية جديدة في سلوكها، وهي سليلة الكنيسة المنهجية التي لا تشجع المنتمين اليها على إبراز نزوعهم الديني. صرحت مؤخرا هيلاري أنها تواظب يوميا على الصلاة، ولا تنقطع عن قراءة الكتاب المقدس حتى في أسفارها، وتجد فيه الإجابة على كل إشكالات الوجود والإنسان.

ليست الظاهرة بالجديدة ولا الغريبة في المجتمع الأمريكي، لكنها عرفت تحولا جذريا في عهد الرئيس الحالي بوش الابن الذي استبطن خطابه السياسي نفسه لهجة وعظية غير مألوفة في السياق الأمريكي الذي لا يشذ في خصوصياته عن القاعدة العلمانية في الغرب.

في فرنسا فجر الرئيس النجم ساركوزي ضجة مماثلة في أكثر المجتمعات الغربية علمنة واقلها تدينا. تجرأ حاكم باريس الجديد على انتهاك المبدأ المقدس للجمهورية، وطالب صراحة بمراجعة قانون الفصل بين الدولة والكنيسة الصادر عام 1905 في اتجاه الاعتراف بالدور التاريخي والحضاري والأخلاقي للدين، والحاجة إلى هذا الدور في العصر الراهن الذي طغت عليه العدمية القاتلة.

كرر هذه الرؤية مؤخرا ثلاث مرات متتالية، أولاها في الفاتيكان في مجلس البابا في ديسمبر الماضي، والمرة الثانية في خطابه بمناسبة رأس السنة، والمرة الثالثة في الرياض خلال جولته الخليجية الشهر المنصرم.

حتى بوتين الرئيس الروسي الذي عمل مطولا في المخابرات السوفياتية مسؤولا عن محاربة الديانات، اكتشف الإيمان مجددا، وأصبح راعيا أمينا للكنيسة الارثذوكسية، وداعيا منافحا عن الأخلاق الحميدة والمثل الروحية في مواجهة التحلل الأخلاقي والفساد والجريمة. يذكر بوتين انه رجع للدين اثر نجاته عام 1995 من حريق أشعل بيته الصيفي ولم تنج منه سوى قلادة تحمل الصليب أهدتها له أمه في الصغر، ولم تعد تفارقه منذ تلك التجربة القاسية.

في الكتاب الذي اشرف على تأليفه كرستيان رودو وصدر بعنوان «هؤلاء المؤمنون الذين يحكموننا» شهادات حية على التجارب الدينية لقادة الغرب الكبار وهم الأمريكي بوش والبريطاني بلير والفرنسي شيراك والروسي بوتين. كلهم لا يخفي نزوعه الديني، وتوظيفه لهذا النزوع في اللعبة السياسية.

والمفارقة القائمة هنا ان الدين لم يعد يشكل إطارا مرجعيا للقيم الجماعية في الغرب، بل ان الإقبال عليه أصبح محدودا هامشيا (باستثناء المجتمع الأمريكي ذي الخصوصيات التاريخية المعروفة).

يقول الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشال سر، انه عندما كان يريد في السبعينيات إثارة اهتمام طلبته حدثهم في السياسة وعندما كان يريد الترفيه الهزلي عنهم حدثهم في الدين، وقد انعكست الصورة راهنا، فلم تعد السياسة سوى مادة للسخرية والاستهزاء وتحول الدين الى واجهة الاهتمام الفكري والنظري.

لا يتعلق الأمر بعودة الدين التي تنبأ بها برجسون الذي اعتبر ان القرن 21 سيكون قرن الدين او لا يكون، بل بأزمة العلمنة في علاقتها التعويضية للدين التي تحتاج لوقفة أخرى.