كان اسمها جميلة

TT

دخلت جميلة بوحيرد الى بقاعنا من باب الاسطورة. كانت تلمع في فناء حرب التحرير الجزائرية اسماء «الأبوات» الكبار: بومدين. بوتفليقة. بوضياف. وكنا نتساءل، ماذا تفعل المرأة الجزائرية عندما يخرج الرجال إلى الشهادة. وفجأة لمع اسم «بوحيرد». وعرفنا ان الجزائرية تدخل السجن الاستعماري مرفوعة الرأس. وأمضت جميلة بوحيرد في السجون 5 سنوات. وتضحك اليوم «لقد تعرفت إلى مدن فرنسا الجميلة من نوافذ السجون».

تشرفت أمس بلقاء جميلة بوحيرد. سيدة بسيطة كالمناضلات، ومشرقة بالتواضع مثل نبلاء القوم. وفي حالة اعتذار دائم عن لغتها العربية. وقد سألتها حفيدتها فاطمة، في مزيج من العتب والتأنيب «أين كنت عندما كان يجب ان تتعلمي العربية؟ ومن سيعلمني القرآن الآن إن لم تكن جدتي»؟ وشعرت جميلة بوحيرد بالخجل. وقالت للطفلة في عامها السادس «يا فاطمة، كنت أحارب من اجل ان يتعلم ابنائي واحفادي القرآن باللغة العربية. انا لم يكن لي حظك».

سألت جميلة بوحيرد التي نستها الثورة، فيما راح الرجال يتقاسمون النصر: «هل يعرف الجيل الجزائري الجديد عنك ما يكفي؟» وقالت بتواضع جم: أعتقد ذلك. من الصعب ان تنسى الأجيال الجديدة اعمال الذين سبقوا.

سألتها بسذاجة: «اين تمضين اكثر الوقت؟» قالت بعتب: «وهل هناك اجمل من الجزائر؟». لا علاقة لها بصراعات الوطن. هي، بدأ دورها وانتهى في النضال من اجل الحرية. وعندما انقضى الهم الكبير، انصرفت الى همومها البسيطة: العائلة ومحاولة التقاط ما فاتها من اللغة والتراث. واكثر ما يحزنها ان تمتدح طلاقتها بالفرنسية «أليس معيباً انني لا اجيد سوى العربية الدارجة؟».

كيف تنظر الآن إلى الافلام التي صورت عنها والكتب التي ألفِّت عنها والقصائد التي كتبت فيها؟ «لقد أدت غرضها. لقد أفادت شعلة الثورة. كل ذلك لم يكن عني. كان عن الثورة. هي كانت الغاية ولم اكن سوى الوسيلة. فالعقول يسحرها ان يظهر وجه امرأة في عملية نضال طويلة».

كل ذلك أصبح في التاريخ وللتاريخ. الآن هناك سيدة عادية، هادئة، وباسمة على الدوام، وتبدو اصغر من عمرها الحقيقي. ولا يحيط بها أي ادعاء أو أي افتخار او أي تكابر. ولا تشبه جميلة بوحيرد الجدة في شيء تلك الصورة التي طبعت في ذاكرة العالم أيام شبابها: الشعر الأسود والعينان السوداوان والنظرات المقاتلة. هذه الآن سيدة باسمة في حالة اعتذار دائم عن لغتها الدارجة. جاءت إلى فرنسا لكي تعالج في مستشفياتها. لقد مضى نصف قرن على يوم كانت تأتي إلى فرنسا لتزج في سجونها.