حماس وتحديات الأمر الواقع

TT

لا يزال «الأمر الواقع» الذي فرضته حماس قبل اسبوعين، لتنبه العالم الى ضرورة ادخالها طرفا في معادلة التوصل لتسوية سلمية، يثير الجدل عن نوعية الحل الواقعي، بدءا بحل مشاكل مواطني قطاع غزة، واستقرار وسلام آمن لكل من المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين ويوجه طاقات الشعبين للتعاون والإنتاج والرفاهية.

هل غيرت حماس ميزان القوى السياسية على الارض، ام ان مفاجأة ارباك داود الغزاوي الصغير للعملاقين، غولياث شرقا وشمشون غربا أظهرت الأمر بعيون الصحافة، وكان موازين القوى تغيرت؟

بعد 11 يوما من التسوق في «مول» سيناء، عاد الغزاوي لدياره وخسر جزءا معتبرا من تعاطف الرأي العام العالمي بعلامات سلبية في سجل سلوكه.

نسف السور الذي يميز الحدود بين مصر وغزة لم يحدث عفويا كرد فعل لتفاقم الحاجة الناجمة عن الحصار؛ فلا احد يحتفظ في حوش الدار «ببولدوزر» أجهزة حفر آلية تخرج عفويا لهدم السور. حماس خططت للامر مستغلة تعاطف الرأي العام العالمي معها نظرا لإغلاق اسرائيل للمعابر كأمر غير انساني، خاصة أن معظم تقارير الصحافة عن معاناة سكان غزة من نقص الوقود والغذاء، اغفلت ذكر أن الاسرائيليين يبررون اغلاق المعابر، باستمرار هجوم المتطرفين بالصواريخ على المدن الاسرائيلية ـ ردا مقدما على الانتقادات: لا يمكن حل المشاكل الا بالدراية بكل التفاصيل لا النظر من زاوية التعاطف مع من يبدو «الضحية» لحظة اعداد التقرير الصحفي.

عشية تنفيذ حماس لخطة هدم السور، تظاهر الاخوان المسلمون (وهم جذع الشجرة الاصلي الذي تفرعت منه حماس) دعما لحماس، مع طرفي الثالوث غير المقدس، القومجية العرب، واليسار الماركسي، يريدون الضغط على القاهرة لتمزيق معاهدة السلام، واستحضار شبح الكولونيل جمال عبد الناصر ليوجه موارد الأمة المصرية نحو الحرب على دقات طبول الفضائيات القومجية الغوغائية نسخة القرن 21 من ميكروفون احمد سعيد.

هدم سور الحدود ـ والذي سيتحمل دافع الضرائب المصري نفقات اصلاحه ـ كان مفاجأة حماس الثالثة للعالم.

الاولى بفوزها (44% من الاصوات) في الانتخابات الاخيرة على فتح، الحزب الاكثر خبرة سياسيا، حيث لم يتوقع احد ان يجيء التصويت عاطفيا ايديولوجيا بعيدا عن واقعية الاوضاع العملية والحاجة الاقتصادية من جانب الناخب الفلسطيني.

فالناخب عرف مقدما ان اختيار حكومة ترفض الاعتراف بمعاهدة السلام، وتدعو لتدمير الدولة التي يرتبط اقتصادهم بها، سواء تشغيل الايدي العاملة او تصريف او الحصول على الطاقة، سيؤدي لرفع البطالة وانهيار الاقتصاد. وبدوره يتيح الفرصة لأطراف كإيران بتقديم الدعم المالي مما يقوي من جانب المتطرفين، وبدوره يهدد مصالح القوى الاقليمية الصديقة للفلسطينيين تاريخيا كمصر وبلدان الخليج.

الناخب الفلسطيني كان يفترض ان يكون من انضج ناخبي العالم بعد ان صقلته تجارب سياسة مريرية، والثمن الباهظ الذي دفعه عبر اجيال، لعناد زعماء وساسة ايديولوجيين غير مسؤولين.

المفاجأة الثانية كانت نقض حماس اتفاق مكة وانقضاضها، دمويا، على الشريك فتح في الحكومة الائتلافية التي انهت عزلة غزة بسبب رفض حكومة حماس الاعتراف بالمعاهدات الدولية التي وقعتها ادارة الرئيس عرفات. فالمعاهدات توقع بين دول وتبقى المعاهدات ثابتة، لأن الدولة القومية ـ التي لا تعترف حماس بها ـ ككيان ثابتة لا تتغير بتغير الحكومة.

نقض الاتفاق جدد عزلة حماس، وحمل المراقبون الدوليون للحدود مع مصر، وهم من الاتحاد الاوروبي حسب الترتيبات بعد انسحاب اسرائيل من قطاع غزة امتعتهم ورحلوا متعللين بعدم احترام حماس للاتفاقيات الدولية. وزادت اعباء المسؤولية على مصر، التي لها ما يكفيها من المشاكل الإقليمية، ناهيك من محاربة الارهاب والتطرف.

وضعت المفاجأة الثالثة مصر في مأزق بانتقال ضغط الرأي العام العالمي لمساعدة الفلسطينيين من اسرائيل الى مصر، وان كان الضباط المصريون نبهوا نظراءهم الاسرائيليين الى محاولات حماس خرق السور الحدودي قبل شهرين حسب مصادر عسكرية اوروبية. تصرف المصريون بحكمة، حيث اصدر الرئيس حسني مبارك التعليمات بترك الفلسطينيين يتسوقون من مصر، وتحلى حرس الحدود المصري بالصبر وبرود الاعصاب، والتساهل مع قذف الاحجار (والتي تقابل بالقنابل المسيلة للدموع وأحيانا الرصاص في حالة القائها على الاسرائيليين) في البداية.

من السذاجة طبعا تصور الا تقلق القاهرة، وكثير من العواصم العربية، على امنها القومي من حماس والقوى المؤيدة لها، فأجهزة مخابراتها تدرك ان يد ايران وراء حماس، والتي بدورها امتداد لجماعة الاخوان، التي يعتبرها القوميون المصريون وأجهزة الامن المصرية «العدو في الداخل»، بسبب تاريخ الجماعة الدموي منذ ثلاثينات القرن الماضي. لكن القاهرة وضعت الاعتبارات الانسانية، ورد فعل الشارع المصري في موازنة حماية حدود البلاد. الرئيس مبارك اثبت حسن ادراكه لنبض الشارع المصري ولتوقيت مطالبه. فقد تغير مزاج المتظاهرين المصريين من تأييد الغزاويين، الى ادانة انتهاكهم للسيادة المصرية واعتداءات المتطرفين منهم على البوليس المصري وجرح قرابة ثمانين ضابطا، وضبط ارهابيين تسللوا الى الفيوم في عمق مصر في مشاهد صورتها الصحافة المصرية.

رفع بعض المتطرفين اعلام فلسطين وأعلام حماس على اراض مصرية كانت مشاهد مستفزة لمشاعر المصري الذي يقدس قوميته المصرية قبل اي هوية، كمواطن اقدم دولة قومية ظلت حدودها ثابتة لـ7000 عام.

واكبت مشاهد الاستفزاز تصريحات محمود الزهار، احد زعماء حماس، في لقاء صحفي بأن الفلسطينيين لم تكن لديهم دولة، بل كانوا تاريخيا جزءا من «امة عربية واحدة ممتدة من المحيط للخليج، وأمة اسلامية اكبر تضم تركيا». واعتبر المصريون ذلك الوجه الآخر من عملة مرشد الاخوان القائمة على عدم الاعتراف بالدولة المصرية القومية. وفي الوقت نفسه اثار معلقون اسرائيليون اقتراح «نقل مشكلة غزة لمصر»، و«توطين الغزاويين في سيناء». وأغلقت القاهرة الحدود بتأييد وضغط شعبي يطالب بالحفاظ على السيادة المصرية، مما أضطر حماس، ببراغماتية غير معهودة، للمساهمة في حراسة الحدود. وبتوقيت مناسب تضغط مصر لإعادة تفعيل اتفاق مكة بحكومة ائتلافية تخضع لدولة رئيسها محمود عباس، منتخب مباشرة من كل الفلسطينيين، اسلاميين وعلمانيين وغير مسلمين. اقتراحات التفاوض مع حماس كقوة واقعية طرحتها افتتاحيات التلغراف والغارديان والايكونوميست. وفي المقابل طرح آخرون رسوب حماس في اختباري اتفاق مكة، وانتهاك الحدود الدولية. حركات السلام، واليسار في اسرائيل، يقترحان هدنة مع حماس. المشكلة اقناع الناخبين الاسرائيليين بالاقتراح بينما ترفض حماس الالتزام بالمعاهدات الدولية، واثبات قدرتها على فرض الامن على القطاع ونزع سلاح من لا حق دستوري له في حمل السلاح.

انها تحديات حقيقية لمؤيدي السلام تترك معظم ضربات الكرة للاشواط القادمة في ملعب حماس، يجب ان تحسن توجيهها اذا ارادت ان تحتفظ بتعاطف الرأي العام العالمي، والسعي لخوض الانتخابات القادمة بأجندة ايجابية للناخب الفلسطيني.