«الرؤية البوشية» لـ«الهلال البشيري»!

TT

قبل ايام من جولة الرئيس بوش الابن الافريقية التي لن تشمل مع الأسف السودان، إلاَّ اذا قرر الرئيس المتجول في سنته الاخيرة التوقف بغرض الإغاظة في مطار «جوبا»، تستوقف المرء ملامح الثقة بالنفس المبالَغ بها لدى اهل الحكم السوداني الشمالي في موضوع العلاقة مع الادارة الاميركية والتي لم تقتصر على العقدة الامنية المتعلقة بمبنى السفارة في الخرطوم التي لا تزال عالقة لا تجد حلاً جذرياً لها، وإنما تشمل الاعتراض على ملاحظات دبلوماسية اميركية حول «السلوك الانقاذي» وصلت الى حد أن القائم بالأعمال الاميركي لدى «السودان الشمالي» يدلي بتصريحات تتشابه مفرداتها ومنطلقاتها وروحيتها مع التصريحات التي أغرق بها السفير الاميركي جيفري فيلتمان المجتمع السياسي طوال عمله في بيروت، وبالذات في السنة الاخيرة له حيث بات كما لو أنه قطب حزبي آخر في خارطة الاحزاب والقوى السياسية المتصارعة على الساحة اللبنانية.

لا بد اولاً من توضيح ما سميناه «السودان الشمالي». والقصد من تسميتنا هذه انه بعد اتفاقية السلام بين «حكم الانقاذ» و«الحركة الشعبية» التي كانت تقود التمرد في السودان اصبح واضحاً تمام الوضوح ان «السودان الجنوبي» هو جزء من الاستراتيجية الاميركية وان الإصرار على ان يكون السفير السوداني لدى الولايات المتحدة جنوبياً وان يكون «مكتب جنوب السودان» في واشنطن محاطاً برعاية واهتمام من جانب الادارة الاميركية، ليس مجرد مصادفة. كما انه كان خياراً لا مجال امام «الإنقاذيين» سوى التسليم به. وإلى ذلك ان الشريك الجنوبي ومن القمة في شخص سيلفاكير نزولاً الى سلاطين معظم قبائل الجنوب هم عملياً «اللوبي الاميركي». وكثيراً ما سجَّل هذا الشريك مواقف سياسية ليس فقط متعارضة مع الموقف السوداني الرسمي وإنما كانت المواقف الى يمين الموقف الاميركي مما يترك اهل «الانقاذ» في العراء السياسي.

وعلى هذا الاساس فإن القول بتفاقم الازمة السودانية ـ الاميركية وعلى رغم انها كانت عموماً مثل حالة الضغط الذي يصيب جسم الانسان يرتفع احياناً الى درجة الخطر الشديد وأحيانا يهبط الى درجة مماثلة ويتم العلاج غير الجذري لهذه الحالة، انما هو على اساس بين جزء من السودان هو «حكم الانقاذ» الذي يقوده عسكرياً الرئيس عمر البشير ويتحاصص قيادته سياسياً ديناصورات «الإنقاذ» الذين من الصعب ان تجد قلوبهم متآلفة على اساس ان كلاً من هؤلاء ينتظر فرصة الترؤس، فضلاً عن ان «الإنقاذ» لم يطرح في سوق العمل السياسي والحزبي جيلاً اكثر شباباً وبذلك فإن الوضع بقي مقتصراً على الجيل الواحد بجناحيه.. الجناح الترابي المخضرَم الذي امكن قصقصته وبذلك لا يقوى على التحليق والجناح البشيري الذي قصقص اجنحة الشيخ حسن او «ميشال عفلق الانقاذ» ومن دون ان يرتضي «شيخ الانقاذ» نوعاً من المهادنة كتلك التي يعتمدها في بعض الاحيان الركن التاريخي لطائفة «الانصار» الإمام الصادق المهدي الذي عادت المناكفات داخل بيت العائلة تطفو على السطح من جديد بعد ترضية شكلية لحالة مبارك الفاضل المهدي..

ولا نتجنى في التصنيف اذا نحن اعتبرْنا ان الازمة هي بين الادارة الاميركية وبعض السودان، بل اننا لا نتجنى اذا نحن لاحظْنا في المشهد السوداني ظاهرة كثيرة الوضوح وهي ان العراك البوشي يتواصل مع السودان البشيري وان الشريك الجنوبي يتفرج وكأنما الأمر لا يعنيه في شيء. ومن المظاهر المستجدة لهذا العراك ان القائم بالاعمال الاميركي لدى، كما المفترَض، كل السودان البرتو فرنانديز قفز فوق الخط، الاحمر في نظر الحكومة البشيرية، الاخضر في نظر الادارة البوشية، وقال قبل ايام لوكالة «رويترز» ما معناه إن العالم فقد الثقة بالحكومة السودانية لأنها لا تتمتع بالمصداقية. اما لماذا هذا التوصيف فلأن الرئيس البشير متمسك بـ «هلاله» موسى هلال قائد «الجنجويد» في دارفور وتعيينه مستشاراً في ديوان الحكم الاتحادي بغرض إسباغ الحصانة عليه وبذلك ينجيه من مطاردات وربما محاكمات ذات طابع دولي.

بطبيعة الحال إن كلام القائم بالأعمال الاميركي فرنانديز يجعل الدم «الإنقاذي» يزداد فوراناً، وهذا بدا واضحاً في استدعاء الرجل الى الخارجية وإمطاره باحتجاج لم يصل الى درجة اعتباره غير مرغوب فيه. وهذا ليس تمسكاً بـ «ديمقراطية التعامل الدبلوماسي» من جانب اهل «الإنقاذ» وإنما لأن أي احتجاج او خطوة من جانب «سودان البشير» ستلقى من «سودان سيلفاكير» التحفظ في الحد الادنى والاعتراض في الحد الاقصى.. وربما تبلغ حد التبرؤ، وهذا يجعل الدبلوماسية الاميركية في الخرطوم تتصرف على نحو ما درجت عليه هذه الدبلوماسية في بيروت المغمورة بمباركة «الاكثرية» لها وتجعل القائم بالأعمال فرنانديز يرد على الاحتجاج السوداني المنمق بالتلميح الى ان هنالك «خارطة طريق» حول المطالب والمتطلبات الاميركية سينقلها مبعوث من الادارة البوشية الى الحكومة السودانية. كما انها تجعل فرنانديز يستغرب بعض ما ورد في الاحتجاج من انه يتدخل، بالتساؤل: «وكيف لا يحق لأميركا ان تتدخل وهي التي لعبت دوراً لا يستهان به في الوصول الى اتفاق السلام وتُقدِّم الدعم في نشر القوات الهجين...».

ومن حق القائم بالأعمال الاميركي ان يستغرب إذ لولا الدور الاميركي لما كان انجاز الاتفاق ممكناً. ومَن ينجز يتدخل وبما هو اكثر من التصريحات احياناً.

وبالنسبة الى السودان بالذات فإن «الرؤية البوشية» لـ «هلال الإنقاذ» او «الهلال البشيري» تندرج في السياق المشار اليه، هذا إذا لم تأخذ الامور المسار الاكثر خطورة، اي بما معناه تصبح مهمة فرنانديز او غيره في السودان مثل مهمة فيلتمان في بيروت... وإلى أن ترسو السفينة على بر الأمان فلا تغرق في بحر التدخلات.