نداءات نشر الديمقراطية الغربية: لحماية الحريات أم لامتلاك العالم؟

TT

تصاعدت في السنوات الأخيرة النداءات الأمريكية الداعية إلـى نشر الديمقراطية الغربية في العالم، خاصةً في الشرق الأوسط، وتبني بعض الكتاب العرب والمسلمين لهذه الطروحات، ومطالبتهم بتطبيق النموذج الغربي للديمقراطية، جاعلين ذلك النموذج الأمثل. وكأن الديمقراطية الغربية هي العصا السحرية التي ستجلب الخيرَ لدول المنطقة وأهلها. هل بُنيت تلك القناعات لدى كتابنا العرب والمسلمين على قراءة دقيقة لتطبيقات الديمقراطية في المجتمعات الغربية ـ خاصة الولايات المتحدة ـ أم أنها كما قال ابن خلدون: «إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه، ونحلته، وسائر أحواله وعوائده». وهل أمريكا نفسها تطبق الديمقراطية فعلاً؟ كما يريدها مفكروها. مهما ادَّعينا معرفتنا بأمريكا، فإن إجاباتنا ستظل قاصرة. نظراً لبعدنا عن معايشة المجتمع الأمريكي والعمل من خلال مؤسساته. لذلك دعونا نصغي إلى آراء مفكريهم في ذلك.

في مقالة بعنوان: «نحن نمتلك العالم». (We Own The World) نشرتها مجلة «زي» الإلكترونية الأمريكية. في شهر يناير (كانون الثاني) 2008. يقول المفكر والكاتب الأمريكي نعومي تشومسكي: «كان هناك إجماع للرأي العام الأمريكي بأن على أمريكا سحب قواتها من العراق، إلا أن الحكومة الأمريكية تجاهلت ذلك الإجماع، وانتهكت إرادة الرأي العام، فزادت قواتها ما بين ثلاثين إلى خمسين ألفاً من الجنود. وبررت الحكومة الأمريكية تصرفها هذا، بأن هناك تدخلا أجنبيا في العراق، يستوجب زيادة القوات لحماية العراقيين».

ويقول: «إن كلاً من الحمائم والصقور في أمريكا متفقون على وجود تدخل أجنبي في العراق. لكن تبريرات كل طرف تختلف عن الطرف الآخر. ومهما يكن، فإن هذا الاختلاف يمثل أحد مظاهر التمايز بين نظم الدعاية السياسية (propaganda) ففي النظام الشمولي، الدعاية السياسية شيء لا بد أن تقبله وإلا، وهذه «الإلا» تعني نتائج عدة تعتمد حدتها على نوعية النظام الحاكم، وفي ظل النظم الشمولية، الناس لهم أن يؤمنوا بما يعتقدون ولكن عليهم أن يكونوا مطيعين. أما المجتمعات الديمقراطية فإنها تستخدم أسلوباً آخر. فهي تشجع السجال الحاد حول المواضيع المطروحة في حدود الإطار العام للحزب وهذا يحقق مصلحتين:

أولاً: يعطي انطباعا أن المجتمع حر ومفتوح، والدليل على ذلك هذه المناظرات والسجالات المفتوحة في أمريكا.

ثانياً: يرسخ المفهوم المفترض مسبقاً لدى الحزب حول القضايا التي تم طرحها على الناس، حتى تصبح من المسلمات. لينتهي إلى القول: «وتصبح هذه المناظرات معقولةً فقط إذا افترضنا أننا نملك العالم. ومَن يتدخل في بلد تم احتلاله (بالغزو) من قبلنا، فإن ذلك يعد ضرباً من الجنون. فكيف يمكن لإيران أن تتدخل في دولة قمنا باحتلالها؟»

ويجيب الكاتب عن هذا السؤال بقوله: «هذا صحيح، إذا افترضنا أننا نمتلك العالم». ويضيف: «هذا ينطبق على جميع القضايا التي تواجهنا، فالسجال الحالي القائم بين الحمائم والصقور في أمريكا، يدور جميعه حول الفرضية غير المعلنة من قبلهم جميعاً، ديمقراطيين وجمهوريين، وهي أننا نمتلك العالم. الشيء الوحيد الذي يهم هو: كم يكلفنا ذلك». ويسترسل الكاتب ويقول: «لم يطالب أي مسؤول في البيت الأبيض بسحب فوري للقوات الأجنبية من العراق سوى «كوندوليزا رايس» في ردها على أحد الصحفيين، فهي ترى أن حل مشكلة العراق يكمن في: سحب القوات الأجنبية من العراق. هي لم تكن تقصد القوات الأمريكية بل كان قصدها الإيرانيين والسلاح الإيراني. وهذا أيضاً يؤكد الافتراض بأننا نملك العالم. لذلك عندما نغزو العراق أو كندا فنحن السكان الأصليون وغيرنا هم الأجانب». ويتساءل الكاتب: هل من حل للوضع الأمريكي الإيراني؟

«ثم يجيب: هناك بعض الحلول الممكنة؛ أحدها: الاتفاق على أن تمتلك إيران الطاقة النووية (وليس السلاح النووي).

وثانيها: جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي، بما في ذلك إيران وإسرائيل، وكذلك القوات الأمريكية والبريطانية الموجودة في المنطقة.

وثالثها: أن تقوم الولايات المتحدة، وغيرها من الدول النووية، بإظهار حسن النوايا، بأن تتخلى عن السلاح النووي بالكامل».

ثم يتساءل: هل هذا ممكن؟ ويجيب عن ذلك بوضوح: «إنه ممكن، بشرط واحد: أن تصبح الولايات المتحدة وإيران، ديمقراطيتين فعليا».

ويوضح الكاتب بأن هذه الحلول المقترحة هي في الحقيقة رأي الأغلبية العظمى من الشعبين الأمريكي والإيراني. ومقتضى الديمقراطية أن يكون رأي الأغلبية هو المؤثر الحقيقي على السياسات. ويبين بأن هناك مشكلة في أمريكا، وهي أنها ليست ديمقراطية حقيقية، وضرب مثلاً على ذلك، بأن ثلثي الشعب الأمريكي يرى إنهاء مقاطعة كوبا، وإقامة علاقات دبلوماسية معها، وهذا خيار الأغلبية منذ ثلاثين عاماً وفقاً لمؤشرات الرأي، إلا أن تلك الاستفتاءات ليس لها أي تأثير على سياسة الحكومة تجاه كوبا. والحال كذلك بالنسبة لإيران. لذلك يقول الكاتب: إنه ليس هناك طريق لحل المشاكل القائمة، غير ممارسة الديمقراطية الفعلية».

مما تقدم ندرك بأن الدعاية السياسية المكثفة للديمقراطية الغربية، أعمت الكثير عن عيوبها التي يعرفها مفكروها أنفسهم، وبدأوا في نقدها، فالديمقراطية، كما يراها منظروها «هي حكم الشعب» إلا أن الصورة الحقيقية لتطبيق الديمقراطية في الغرب، وخاصة أمريكا، مهما كانت الحسنات والسيئات ليست هي حكم الأغلبية. إذن من الخطأ أن نطلق على النظام في أمريكا، أو غيرها من الدول الغربية، بأنه نظام ديمقراطي فعلي، ومن الغباء السياسي أيضاً، أن نرفض نحن المسلمين الديمقراطية رفضاً قاطعاً، كون أمريكا تروّج لها، حيث أنه لا ُيلزمنا موافقة الديمقراطية الغربية في بعض الجزئيات، أن نأخذ سائر ما فيها، أو أن نتبنى فلسفتها، ثم إن الحسنات الموجودة في الديموقراطية ليست خاصة بها، ولا مرتبطة بها بل يمكن أن تخلو هي منها كما يمكن أن توجد في غيرها، فالانبهار بتلك الشعارات التي أصبحت تردد علينا مساء نهار كحقوق الإنسان، الحريات، التعددية، الديمقراطية.. ينبغي أن يكون انبهارا مرشّداً، لا يعمينا عما لدينا في ديننا وقيمنا، من حفظ للحقوق، وحماية للحريات، والتسامح، والشورى.. وأن نعمل جادين على تأصيل هذه المفاهيم تأصيلاً شرعياً يتناسب مع ثوابتنا الدينية، السياسية، الاجتماعية للمحافظة على ديننا ودنيانا. وأن لا تكون حالنا كما جاء في بيت شعر منسوب للإمام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ:

نُـرقِّـعُ دُنـيانـا بـتـمـزيـق ِ ديـنـنـا فـلا ديـنـاً يـبـقـى، ولا مـا نُـرقِّـعُ ويبقى السؤال: هل تلك النداءات لنشر الديمقراطية الغربية هي في الحقيقة حمايةَ للحريات وتحقيق للعدالة الاجتماعية، أم لامتلاك العالم؟

* كاتب سعودي

[email protected]