من كوخ العم توم إلى بيت العم سام..

TT

في عام 1852 نشرت الروائية الأميركية هيريت ستاو (1811 ـ 1896) رواية «كوخ العم توم»، مصورة من خلالها معاناة الرقيق الأسود في الولايات المتحدة، وموضحة لاإنسانية الرق والعبودية، وقد كانت هذه الرواية الكتاب الأكثر مبيعاً في القرن التاسع عشر، بعد الكتاب المقدس.

بعد صدور الكتاب بأقل من عشرة أعوام، اندلعت الحرب الأهلية الأميركية بين الشمال والجنوب (1861-1865)، على خلفية قانون إلغاء الرق. لقد كانت هذه الرواية ذات أثر عظيم على الوجدان الأميركي، لدرجة أنه يُقال ان الرئيس إبراهام لينكولن (1809ـ 1865)، قال عندما قابل هيريت ستاو: «إذاً فهذه هي السيدة الصغيرة التي أشعلت هذه الحرب الكبيرة». بطبيعة الحال لم تكن رواية ستاو هي السبب في إلغاء الرق في الولايات المتحدة، فالأسباب كثيرة ومتعددة، منها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو متعلق بالظرف التاريخي، ومنها ما هو اجتماعي، ولكن كان للرواية أثر كبير في نقل صورة مأساة الرقيق إلى الوجدان الأميركي. وفي الأول من ديسمبر عام 1955، رفضت «الزنجية» الأميركية روزا باركس (1913ـ2005) الامتثال لأمر سائق حافلة عامة في مدينة مونتغمري بالتخلي عن مقعدها في الحافلة لأجل راكب أبيض، وكانت تلك الحادثة بداية لحركة مقاطعة الحافلات في مونتغمري، التي كانت بداية حركة الحقوق المدنية، التي برز فيها مارتن لوثر كينغ لاحقاً، وسُميت روزا باركس بعدها بـ«أم حركة الحقوق المدنية».

وفي الثامن والعشرين من أغسطس عام 1963، ألقى مارتن لوثر كينغ خطبته الشهيرة «لدي حلم»، أمام النصب التذكاري للرئيس إبراهام لينكولن، في إشارة رمزية واضحة، في واشنطن العاصمة. وقد أنهى كينغ تلك الخطبة الرائعة بالقول: «عندما تقرع أجراس الحرية.. عندما نتركها تقرع في كل قرية وكل ضاحية وكل ولاية وكل مدينة، عندها سنعجل الوصول إلى ذلك اليوم الذي يقف فيه كل أطفال الله: البيض والسود، اليهود وغير اليهود، البروتستانت والكاثوليك، يداً بيد ونحن نغني تلك الكلمات التي تعبر عن تطلعات الروح الزنجية.. أحرار أخيراً.. أحرار أخيراً.. شكراً يا إلهي فنحن أحرار أخيراً..».

يا ترى لو كان مارتن لوثر كينغ حياً اليوم (لو كان حياً، لكان في التاسعة والسبعين من العمر، 15 يناير 1929 ـ 4 أبريل 1968) وهو يرى رجلاً أسود يترشح لأعلى منصب في الولايات المتحدة، وليس بعيداً أن يُصبح رئيساً، هل سيقول ان حلمه قد تحقق، أم أن المسيرة لا زالت مستمرة، وأن «أرض الميعاد»، التي رآها من على «قمة الجبل»، كما قال في خطبته الأخيرة قبل اغتياله في ممفيس، لا زالت في غياهب المجهول؟ لا أدري حقيقة، ولكن من الواضح جداً أن جزءاً كبيراً من حلم كينغ قد تحقق. فبعد أن كان «الزنجي» عبداً يُباع ويُشترى في سوق النخاسة، وقبل ذلك، جسداً مباحاً يُختطف من قريته ومن بين أهله على سواحل أفريقيا الغربية، يُصارع من أجل لقمة تُقيم الأود، وكساء يقي الجسد. وبعد أن كانت روزا باركس تناضل من أجل مقعد في حافلة عامة، وبعد أن كان كينغ يُناضل من أجل حق المواطنة والحقوق المدنية لأبناء جلدته من الأفارقة الأميركيين، ها هي أميركا اليوم تستعد لاستقبال أول رئيس أسود في تاريخها، بل حتى لو لم ينجح باراك حسين أوباما في الوصول إلى أعتاب البيت الأبيض، فإن الشعبية الجارفة التي يتمتع بها، سواء بين البيض أو السود، تقول ان العقلية الأميركية العامة قد تغيرت، بعد أن مر حين من الدهر لم يكن فيه «الزنجي» شيئاً مذكوراً.

حقيقة أن باراك أوباما ليس من سلالة الرقيق، ولكنه يبقى أميركياً من أصل أفريقي، بل أن كونه ابن مهاجر كيني يعطي دلالة أكبر لمدى التغير في العقلية الأميركية، من حيث العلاقة بين الأجناس. ابن مهاجر أفريقي أسود، لا جذور عميقة له في الأرض الأميركية ولا أصول، كما قد يكون الحال مع الأبيض القادم من أوروبا اختياراً، أو الأسود القادم من أفريقيا اختطافاً، ومع ذلك تعترف به أميركا مواطناً كاملاً له كل الحقوق، بعد أن كان عديم الحقوق، وهنا تكمن عظمة أميركا المجتمع والدستور والقانون والثقافة، وليست أميركا الغطرسة وصاحبة الرسالة التاريخية التي يتوهمها أهل اليمين الجديد.

لو كان مارتن لوثر كينغ حياً، لقال ان الحلم قد تحقق، ولكن هناك من يحاولون تشويه هذا الحلم أو حتى إجهاضه، وهؤلاء كانوا دائماً أعداء أميركا في الحاضر والماضي، وهم من يتوهمون الدفاع عنها. لقد كان إدغار هوفر (1895 ـ 1972)، الرئيس الأشهر لـ«إف. بي. أي»، يُناصب كينغ وحركة الحقوق المدنية العداء، انطلاقاً من الحفاظ على المصلحة الوطنية، في الوقت الذي كان يُدمر فيه المستقبل الأميركي بصنيعه. وكان جوزيف مكارثي (1908ـ1957) يدمر الروح التي جعلت أميركا ما هي عليه، في الوقت الذي كان يعتقد فيه أنه كان يحمي أميركا من الشيوعية، مُعطياً الانطباع بأن أميركا كيان هش، قابل للانهيار أمام أي هبة ريح. واليمين المسيحي الجديد، وعلى رأسه جورج بوش الابن، يعتقد أنه يخدم أميركا حين يغزو العالم باسم الديموقراطية، والديموقراطية منهم براء، وباسم المهمة التاريخية لأميركا، وباسم رسالة إلهية لا نعرف من هو رسولها. لم يستطع مكارثي أن يصمد طويلاً، وعادت أميركا إلى مبادئها التي رسخها الآباء المؤسسون، والدستور، وإعلان الاستقلال. ولم يستطع هوفر أن يُجهض حركة الحقوق المدنية، كما لن يستطيع المحافظون الجدد أن يجعلوا من أميركا عدواً للعالم، وعدواً لنفسها قبل أي شيء آخر. أميركا اليوم تُطالب بالتغيير، وأوباما، المواطن الأفريقي الأميركي الأسود، ورمز تاريخ طويل من العذاب والاضطهاد، ليس إلا رمزاً لهذا التغير، وهو الذي يطالب بأن تتصالح أميركا مع نفسها ومع العالم، فتصفق له الجماهير تعبيراً عن أن الزمان لم يعد هو ذاك الزمان. الكل في أميركا يُطالب بالتغيير، المرشحون وغير المرشحين، ولكن شعبية أوباما تبقى مؤشراً على أن أوان التغيير قد حان. فإن تتقبل أميركا رئيساً أسود، بل وابن مهاجر أفريقي أسود، مؤشرا على أميركا في حالة التفاف على نفسها، لتعود إلى جذورها التي جعلت منها «حلماً» على مستوى العالم كله. قبل عدة سنوات، رشح جيسي جاكسون، رفيق كينغ في نضاله، نفسه لمنصب الرئاسة الأميركية، ولكنه فشل فشلاً ذريعاً. لم يكن جاكسون أقل كارزمية من أوباما، ولم يكن أقل بلاغة أو ثقافة منه، بل كان أكثر رسوخاً منه في الأرض الأميركية، ولكن زمان التغيير لم يكن قد حان بعد. أميركا اليوم تحاول أن تعود إلى نفسها، وما أوباما إلا هذه الرغبة مجسدة، حتى لو يصل إلى بيت العم سام، وهنا تكمن جدلية الفرد والتاريخ، بل لنقل الظرف والتاريخ.

تاريخ طويل من المعاناة للأفارقة الأميركيين، منذ أن أتى الإسباني لاس كاساس في منتصف القرن السادس عشر، بفكرة استعباد الأفارقة للقيام بالأعمال الشاقة في الجنوب الأميركي بدلاً من الهنود الحمر، السكان الأصليون لأميركا. تاريخ طويل لا يبدأ من كوخ العم توم ولن ينتهي في بيت العم سام، فالمعاناة الإنسانية ما زالت في ذروتها، وتحرر أميركا من إرثها البغيض، وماضيها الكريه، لن يكتمل ما لم يتحرر عالم بأسره من حولها. لن تنعتق أميركا من تركة تاريخها ما لم ينعتق العالم من تركة تاريخه، ويأتي اليوم الذي يغني فيه الجميع: أحرار أخيراً..أحرار أخيراً.. شكراً يا إلهي فنحن أحرار أخيراً..