حزب العودة الفلسطيني

TT

يضغط كثيرون باتجاه المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، بين رام الله وغزة، ولكن هذا الضغط يكاد لا يثمر شيئا، حتى أن التساؤل يصبح مشروعا عما إذا كانت الأمور ستسير نحو المزيد من التمزق الفلسطيني. هذا التمزق المنتظر، هل سيكون مجرد انقسام وتفتت، أم أنه يمكن أن يسفر عن ولادة جديدة لشيء ما لا يزال في رحم الغيب؟

السؤال يبدو صغيرا، أو أنه يبدو عاديا، ولكنه سؤال خطير. فالانقسام الفلسطيني لا يأتي وليد عملية داخلية فحسب، إنما يرتبط بشكل عضوي مع محتل يستغل هذا الانقسام لصالحه، وتبدو الأمور معه معقدة للغاية. وهذا الانقسام الذي نتحدث عنه لا يتحمل مسؤوليته طرف فلسطيني واحد، بل يتحمل مسؤوليته أكثر من طرف، يتحمل مسؤوليته أولئك الذين يقفون على هذا الجانب، وأولئك الذين يقفون في الجانب الآخر، ويتحكم في هذا كله قانون الفعل ورد الفعل.

إذا بدأنا بموقف السلطة الفلسطينية، فإننا نجد موقفا عمليا يتمثل بالمواصفات التالية: رفض المصالحة على مستوى السلطة بين رام الله وغزة. ورفض المصالحة على صعيد اللقاء بين حركتي فتح وحماس. ورفض التعامل مع أي موقف شعبي فلسطيني لا يتم بأمر من السلطة الفلسطينية أو يحظى برعايتها. السعي لتحريك مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية القائمة كما هي ما يعني رفض دعوة الانتخاب من أجل تكوين مجلس وطني جديد. ثم السعي لإبعاد حماس والجهاد الإسلامي ومعظم الفصائل الفدائية المقيمة في دمشق عن اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني المقبل.

ويقول منظرو السلطة في رام الله في تبرير هذه المواقف، إن المصالحة بين الرئاسة الفلسطينية وحكومة غزة المقالة سينتج عنها الاعتراف بتلك الحكومة ولو كحكومة تصريف أعمال، وهو ما سيؤدي إلى إقدام المجتمع الدولي (أميركا وأوروبا) على فرض حصار شامل على الطرفين معا، وهو ما تسعى السلطة في رام الله إلى تجنبه. أما المصالحة بين حركتي فتح وحماس فستقود إلى عودة المجلس التشريعي للعمل، والمجلس قادر آنئذ على إلغاء وتعطيل كل القرارات والمراسيم التي أعلنت في الأشهر الماضية. وعلى قاعدة رفض هاتين النتيجتين، يتم تبني اقتراح الذهاب فورا إلى الانتخابات. وخلاصة هذا كله رفض فكرة المشاركة السياسية التي ستنتج عن أية مصالحة محتملة.

في مواجهة هذا الموقف يأتي الموقف الآخر الذي عبر عنه المؤتمر الشعبي في دمشق الذي انعقد أواخر الشهر الماضي، وكان هدفه الضغط باتجاه المصالحة والوحدة الوطنية، والتأكيد على الثوابت الفلسطينية والتمسك بها. ومع أن الداعين لهذا المؤتمر اعتبروا أن دعوتهم إيجابية وتصالحية، إلا أن السلطة في رام الله اعتبرت دعوتهم انشقاقية وتمردية، وعبرت عن ذلك ببيانات رسمية اعتمدت لغة غير مألوفة في تاريخ التجاذب الفلسطيني الداخلي. ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل هي تطورت إلى حد الإبلاغ المتبادل بأن خطوات أخرى يمكن أن تكون قادمة على الطريق، تزيد من حدة الاختلاف والانقسام. ففي الأسبوع الماضي ذهب إلى عمان خالد عبد المجيد أمين سر لجنة المتابعة المنبثقة عن مؤتمر دمشق، والتقى مع سليم الزعنون رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، وقال الزعنون ما يفيد بأن الرئيس محمود عباس يفكر باحتمال عقد المجلس الوطني الفلسطيني بعدد مختصر من الأعضاء (350 بدلا من 750)، على أن يشمل هذا الاختصار كل الفصائل المتواجدة في دمشق، وكل الأفراد الذين حضروا مؤتمر دمشق، ومن أجل التخلص من عبئهم السياسي. ورد خالد عبد المجيد قائلا إن الإقدام على هذه الخطوة سيعني إلغاء كون منظمة التحرير الفلسطينية مرجعية تظلل الجميع، وسيعني أيضا في هذه الحالة، أن تصبح لجنة المتابعة هي المرجعية لكل الذين سيتم استبعادهم. وبهذه المواجهة «النظرية» تكون الأمور قد وصلت إلى نقطة حسم رئيسية، قد ينتج عنها انقسام جديد يكون أعمق من الانقسام الحالي القائم، ويمتد هذا الانقسام ليخرج عن دائرة فتح وحماس إلى دائرة فلسطينية أوسع وأشمل. وقد تعني في النتيجة انتهاء منظمة التحرير كمرجعية فلسطينية، وأن تصبح منظمة التحرير هي مرجعية السلطة الفلسطينية وحدها.

وثمة موقف فلسطيني ثالث، يعمل خارج إطار السلطة وخارج إطار مؤتمر دمشق، ويتفاعل في الأوساط الشعبية الفلسطينية. ويتركز هذا الموقف في نقطة جوهرية مفادها إن هذا الانقسام الفلسطيني يؤثر على قضية مبدئية أخرى تتعلق بحقوق اللاجئين الفلسطينيين، وعلى حق عودتهم إلى وطنهم بشكل خاص. وهم يرددون في لقاءاتهم وحواراتهم التي تجري بكثافة في أكثر من عاصمة عربية، أنهم جربوا خلال السنوات السابقة عقد اللقاءات والمؤتمرات التي ركزت على قضيتي حق العودة واعتماد قاعدة الانتخاب في تشكيل المجلس الوطني الجديد، ولكن محاولات الضغط هذه لم تثمر، وها هي التحركات القائمة الآن تنبئ بتوجه يسعى إلى تجاهلها كلية، والعمل بما هو نقيض لها. ويستخلص المتحاورون نتيجة مفادها الحاجة إلى إيجاد وسائل ضغط جديدة أكثر فعالية، من نوع عقد مؤتمر شعبي واسع وجامع، يعلن نفس المطالب ويؤكد عليها، وقد تنبثق عنه «مرجعية شعبية» لهذا الغرض، من دون أي نفي لمنظمة التحرير ومرجعيتها، شرط التزامها بالمطالب الشعبية الفلسطينية.

وهناك توجه شعبي آخر يبحث في إمكانية تشكيل «حزب العودة»، وهو حزب مؤهل إذا ما نشأ، لأن يضم في عضويته آلاف الأعضاء إن لم يكن أكثر. ثم يطالب هذا الحزب بتمثيل رسمي له داخل المجلس الوطني الفلسطيني، يتناسب مع حجمه الجماهيري، ومن أجل أن تبقى قضية حق العودة في مقدمة جدول الأعمال التفاوضي الفلسطيني، وبخاصة بعد أن برزت أصوات داخل أجهزة التفاوض الفلسطينية، تقول إنه لا يجوز وضع قضية حق العودة عائقا أمام إمكانية موافقة إسرائيل وأميركا على إنشاء دولة فلسطينية، باعتبار أن الطرفين الإسرائيلي والأميركي يرفضان حق العودة.

ما الذي تعنيه تفاصيل هذه اللوحة الفلسطينية؟

تعني أن الساحة معرضة لانقسام جديد. انقسام أعمق وأخطر من كل ما جرى حتى الآن. انقسام يتجاوز حركتي فتح وحماس إلى مكونات الشعب الفلسطيني كله. وإذا لم تبادر السلطة الفلسطينية إلى خطوة توحيدية، على صعيد السلطة، وعلى صعيد منظمة التحرير الفلسطينية، فإن الانقسامات الأوسع قادمة على الطريق لا محالة. وإذا ما أصبحت هذه الانقسامات أمرا واقعا، فإن من نتائجها الأولى أن السلطة الفلسطينية، وأن الرئاسة الفلسطينية، ستصبح معزولة عن الشعب الفلسطيني، وستصبح في أحسن الأحوال ممثلة لأهلنا في المناطق المحتلة عام 1967، أو لجزء منهم فقط. وهذا ما لا نريده للسلطة، وما لا نريده للرئيس أبو مازن، لأن الكل يريد سلطة فلسطينية واحدة، ورئيسا فلسطينيا واحدا، إنما يحدث أحيانا أنه ومن أجل موقف سياسي يوحد الجميع، لا بد من مواجهة حادة مع العدو المحتل، ولا بد من دفع ثمن هذه المواجهة. وهذا أمر لا بد من أن يكون الكل مستعدين له، من أجل الحفاظ على وحدة الشعب، والتي هي أثمن من أي موقف سياسي مؤقت.