تكريس الجامعات كمحاضن فكرية.. لصالح من؟

TT

يصعب على الدول العربية القيام، بعمليات سبر الآراء أو دراسات اجتماعية ميدانية موسعة، نظرا لما يتطلبه ذلك من إمكانيات باهظة، تتجاوز ميزانيات الحكومات العربية، التي بالكاد تستطيع الاضطلاع بما هو يومي وحياتي لشعوبها. لذلك نلحظ أن معظم نقاشاتنا حول الظواهر الجديدة لمجتمعاتنا وأغلبية الاشكاليات المستعصية، نقاربها بكلام فضفاض وبعموميات لا تغني فضولنا المعرفي. بل انه حتى سياساتنا الاجتماعية والاقتصادية، تستند في بلورتها وصياغتها الى تقديرات تقريبية وليس الى معطيات علمية وإحصائيات لا لبس فيها، الشيء الذي جعل من المخططات التنموية في بلداننا لا تؤتي أكلها، ولا تبلغ أهدافها، بحكم افتقارها لشروط المعركة التنموية، التي يتم التسلح فيها بالعلم والأرقام والنسب الصحيحة.

والشيء الذي يزيد الطين بلة، أن بلداننا بالإضافة الى تواضع إمكانياتها المادية، فإنها تضيق الخناق على الأطروحات والبحوث العلمية التي يقوم بها الطلبة في رسائل الماجستير وأطرحات الدكتوراه وكذلك الشأن بالنسبة الى الأساتذة الجامعيين، الذين يتصفون بالمثابرة العلمية ويريدون تكريس أنفسهم كباحثين أصحاب مقاربات ومشاريع معرفية، وليس مجرد أساتذة يلقنون بضاعة علمية فحسب. والمقصود بتضييق الخناق، هو تقييد مجال الحرية العلمية، خصوصا في مستوى اختيار موضوع البحث، فإذا بدائرة الشروط المعلنة، تشمل شروطا أخرى غير معلنة. وهنا نتساءل لماذا لا تفكر الجامعات في سد الفراغ ـ ولو نسبيا وجزئيا ـ، الذي نعاني منه في مجال عمليات سبر الآراء والدراسات السوسيولوجية الموسعة ودراسات السوق الدقيقة، وذلك بالاستعانة بالطلبة الباحثين والأساتذة لتعويض النقص الحاصل على الأقل من خلال بحوث، تعتمد البحث الميداني والاستبيان والأحاديث والملاحظة بالمشاركة حتى ولو كانت العينات ذات سقف محدود، لا تتجاوز مئات في أقصى تقدير. ذلك أن إطلاق همم الباحثين وتحرير اختياراتهم، سينتج عنه معرفة مختلفة تماما أكثر قربا من الواقع، بدل الاستغراق في الممنوعات، باعتبارها تربة خصبة لتنامي وتأجج كل الظواهر الخطيرة في مجتمعاتنا، التي تعيش على وقع مفارقات ومتغيرات، الشيء الذي أنتج منظومة قيمية متضاربة ومختلفة وسلوكيات بعيدة عن الأنماط المعهودة فرديا ومجتمعيا، بل وحتى «تقليعات» عجائبية وغرائبية، تشمل بالخصوص مجال العلاقات الاجتماعية بدءا من الأسرة كخلية أولى أساسية، وصولا الى المجتمع ككل.

من هذا المنطلق، يصبح من صالح دولنا، إطلاق سراح البحوث العلمية وجعلها في مأمن من المزايدات ومن صراع قوى الشد والجذب اليوم في مواقع التفكير والقرار في حكوماتنا العربية. فلا بد من ضمان حرية البحث وعلى رأس هذه النقطة حرية اختيار الموضوع والظاهرة، وتجنب الوصاية بنوعيها السياسي والديني. بالإضافة الى مقاطعة أسلوب التكتم على أبسط المعلومات والمعطيات في مؤسسات القطاع العمومي، حيث تقفل أمام الباحثين الأبواب، ولا يجدون حتى من يسعفهم في الحصول على المعلومة أو الإحصائية، رغم أن الأنظمة العربية هي الطرف الأكثر استفادة من البحوث الجريئة والجادة، إذ توفر لها الضوء الذي تحتاجه، لفهم إشكاليات تسودها العتمة.

وأمام أهمية أن تحظى الفضاءات الجامعية في البلدان العربية بحرية العلم والبحث وتشجيعها على الإقبال على البحوث الميدانية حيث الوقائع الاجتماعية ومفاتيح فهمها، تصبح مسألة تحريرها من أشكال الرقابة كافة أكثر من ضرورة، كي نفهم أسباب هذا السيل الجارف من الظواهر المعقدة التي تجتاح شبابنا.

إن مواصلة تكريس الجامعات والكليات كمحاضن فكرية، ليس في صالحنا بالمرة. فالمصلحة التنموية تقتضي تحرير هذه الجامعات من خطوط وهمية توصف بالحمراء وتقريب البحوث الجامعية من واقعها الاجتماعي قصد تلبية حاجة علمية ماسة.

[email protected]