عندما كتب لإسرائيل عمر جديد

TT

خزان الذكريات لدي كبير وهائل وممتلئ بالطحالب والثقوب الكثيرة، اغرف منه بقدر ما أستطيع من دون هوادة ورحمة، وبعض الذي اغرفه ينشر، والكثير الكثير منه غير صالح للنشر بتاتاً، لهذا اقذف به واسكبه ليبتلعه التراب.

وأتذكر فيما يتذكر النائم أنني عندما كنت في المرحلة الابتدائية، كان هناك زميل لي متفوق في كل شيء، وكان مدرس التربية البدنية يخصه دائماً برفع العلم في طابور الصباح، لما يتمتع به ذلك الزميل من رشاقة ومشية عسكرية.

ونتيجة لغيرتي المريضة فقد رفعت لواء المعارضة بطريقة لا تسلم من الخبث، ورحت أحرض الزملاء الآخرين، وأطلق الإشاعات، واتهم المدرس أن له مصلحة مادية مع والد ذلك الزميل، لهذا هو يفضله دائماً علينا، ويبدو أن الكلام أخذ ينتشر ووصل إلى مسامع المدرس، فضاق بي وبكلامي ذرعاً.

وفوجئت به في احد الصباحات يتكلم بالميكرفون أمام جميع التلاميذ، وينادي عليّ بالاسم طالباً مني أن أتوجه بمشية عسكرية لرفع العلم، وكأنه يتحداني بالمثل القائل: «وريني مشيك بالسروال».

ولا شك أن المفاجأة أربكتني، لأنني لم أتوقعها على الإطلاق، فأخذت ركبتاي (تتصافقان)، ولاحظ المدرس ترددي وارتباكي، فتحول غضبه إلى ابتهاج، لأنه عرف أن (ما بالعباة رجال)، فما كان منه إلاّ أن يصيح بي آمراً أن أتقدم، وفعلاً استجمعت كل قواي وصررت على أسناني وتقدمت، ويا ليتني لم افعل ذلك.

لأنني عندما تقدمت بقدمي اليسرى، كان المفروض وحسب الأصول أن تكون يدي اليسرى للخلف، لكن الذي حصل أن يدي اليسرى كانت تتبع قدمي اليسرى، واليمنى تتبع اليمنى، وكان منظري (هزؤا) جعل كل التلاميذ والأساتذة يتضاحكون، وبعد أن سرت على هذا المنوال الخائب ما لا يقل عن عشرين خطوة، انتبهت إلى نفسي وتوقفت عن السير.

وعقاباً لي طلب مني المدرس أن اخرج من الطوابير نهائياً وأضع (وجهي للحيط) ـ مثلما قال ـ، فامتثلت وذهبت وكان خشمي يسبقني بثلاثة أشبار.

وما هي إلاّ دقيقة، وإذا بصوت المدرس يتناهى إلى سمعي طالباً من زميلي (النابغة) أن يتقدم، وما زلت أتذكر وقع خطواته المتناسقة مع (مارش الطبلة)، وبعد أن انتهى، طلب من الجميع أن يصفقوا له، وبحسن نية امتثلت للأمر وصفقت مع المصفقين ووجهي ما زال للحائط، وعندما انتبه المدرس لتصفيقي الذي ظن أنني لم افعل ذلك إلاّ من باب السخرية، فما كان منه إلاّ أن يوقفني عن التصفيق قائلاً: بالحرف الواحد: أوقف يدك جعلها بالكسر، فتوقفت مرعوباً خوفاً من (مصعة الأذن)، وكان ذلك المدرس مشهوراً وبارعاً بها جداً.

ألقى على الجميع محاضرة بحسن السلوك، وترك القيل والقال والشائعات التي يروج لها صغار العقول (وهو يعنيني)، وبعدها استوعبت الدرس جيداً، وكنت أيامها احلم أن اتجه في مستقبلي للسلك العسكري من اجل تحرير فلسطين، ومن يومها كرهت شيئاً اسمه العسكرية، ومن حسن حظ إسرائيل أنني لم اتجه إلى ذلك، فقد (كتب لها عمر جديد).

لا ادري اليوم عن المدرس ذاك، وأين أراضيه؟! وهناك احتمال شبه مؤكد انه (اتكل على الله)، أما زميلي المتفوق، فتخرج من أرقى الجامعات الأمريكية، وتوظف في الحكومة، ثم استقال، وهو ما زال حيا يرزق، ومواعيده كلها دائماً مع (مديري البنوك والشركات)، بعكس مواعيدي التي هي في الغالب مع (خشاش الأرض).

[email protected]