الحجاب العائد إلى الجامعات التركية

TT

لم تنجح أصوات آلاف المتظاهرين العلمانيين واليساريين في العاصمة التركية انقرة، وهتافاتهم التحذيرية بأن حرية الحجاب في تركيا، مسألة لها علاقة مباشرة بخيارات وتوجهات النظام وأسس الجمهورية وبنيتها، ولم تقع مفاجأة آخر لحظة فقد اقر مجلس النواب التركي التعديلات الدستورية التي اقترحها حزبا «العدالة والتنمية» الحاكم و«الحركة القومية» اليميني المعارض حول الغاء حظر الحجاب في مؤسسات التعليم العالي، وذلك في محاولة لوضع نهاية لمسألة تصدرت اولويات الداخل التركي على مدى 40 عاما من دون الوصول الى صيغة الحل الملائم. ما لم يكن في الحسبان فقط هو وقوف نواب حزب «المجتمع الديمقراطي» اليساري والمعروف بشعبيته الواسعة في صفوف اكراد تركيا الى جانب القرار وحجتهم هي دعم مسائل الحريات مهما كان نوعها ومن دون أي تمييز بين اصحابها او المدافعين عنها.

العدالة وعد مند البداية بحل هذه المعضلة، لكنه كان دائما يطالب قواعده الشعبية بالتروي، مرجحا اعطاء الاولوية لمسائل اخرى يسجل من خلالها بعض النقاط في رصيده الشعبي والسياسي ويكسب معها ثقة المؤسسة العسكرية التي تتعامل بحيطة وحذر مع العديد من ممارساته وقراراته. وهو هنا اختار على ما يبدو عدم انتظار مناقشة وإقرار الدستور الجديد الذي يعد له منذ اشهر مما يعني انه لم يعد مستعجلا في اصداره اذا ما نجح في استبدال ذلك ببعض التعديلات او بإصدار مجموعة من القوانين التي يوليها الاهمية في الحقبة الثانية من حكمه. اردوغان ورغم انتقادات كبار الشخصيات والاقلام الليبرالية التي وقفت الى جانبه اكثر من مرة لهذه الخطوة الخاطئة في التوقيت والشكل، رجح خيار تحمل الكثير من المخاطرة فخرج علينا من مطبخه السياسي حاملا وجبة طعام اعدها، وهو يمني النفس ان ترضي المنتظرين من الذواقة. الحل المطروح كان عبارة عن تعديل المادتين 10 و42 من الدستور والمادة 17 من قانون التعليم العالي التي تلتقي كلها حول السماح بالدخول الى الجامعات بغطاء الرأس شرط الا يغطي الوجه وان تكون ربطته امام العنق. اما المؤسسات الرسمية الاخرى فهي خارج التعديل رغم ان تصريحات بعض النواب في العدالة حول سياسة الخطوة خطوة وضرورة عدم الاسراع اغضبت اردوغان ودفعته لإحالة اصحاب هذه الاقوال على مؤسسات الحزب لاتخاذ التدابير اللازمة بحقهم. موجة من الغضب العارم تسود اوساط القوى العلمانية واليسارية المتشددة التي يقودها حزب الجمهورية المعارض الذي اعلن باكرا أنه سيحمل رفضه لهذه التعديلات الى المحكمة الدستورية لإعطاء القرار الأخير بشأنها، وهو يعرف تماما ان لا قدرة له على فعل شيء آخر فهو خارج المعادلات السياسية ومسار التغييرات والتعديلات الجذرية وزعيمه دنيز بيقال يكتفي بالانتقاد وبمهاجمة اليمين القومي «الذي سمح للعدالة التلاعب به» في مثل هذه المسائل.

مجلس النواب قال كلمته وأرسل قراره الى رئيس الجمهورية عبد الله غل للمصادقة عليه، حيث يبدو انه غيّر فكره لناحية عدم احالة المسألة على الاستفتاء العام، كونها تندرج ضمن باب الحريات الاساسية في البلاد، رغم معرفته تماما ان الاستفتاء سيعني حشد تأييد الأغلبية الشعبية التي قد تضع نهاية لكل هذا النقاش المزمن بين القيادات والأحزاب في تركيا.

انقسامات كبيرة في صفوف الاكاديميين والنقابات والاتحادات ومؤسسات نسائية كثيرة تنتقد حالة الهستيريا السياسية هذه التي تعيشها البلاد على حسابها ومن دون الاصغاء الى ما تقوله وتريده وحرمانها من المشاركة المباشرة في المناقشات وطروحات الحلول «حيث يقرر الرجال نيابة عنا طريقة لباسنا وغطاء الرأس، الذي سنرفعه فوق رؤوسنا».

«الاجتهاد» الديني والتفسير الدستوري الجديد لطريقة ارتداء الحجاب داخل الحرم الجامعي وقاعات التدريس «غطاء الرأس المربوط تحت الحنك امام العنق»، ينتظر اقراره من الرئيس غل في محاولة لإغلاق هذا الملف، الذي يوصف من قبل الكثيرين بقضية تصفية حسابات بين جماعات العلمانيين المتشددين والقوى الاسلامية، أو المحافظة المتمسكة بأسبابها الدينية في غطاء الرأس، حتى ولو غضب اردوغان وتحدث عن الرمزية السياسية للحجاب. هل سيكتفي العدالة بهذا القدر من القوانين والقرارات التي اصدرها في التعامل مع مسألة حساسة من هذا النوع؟ هل تسير ازمة الحجاب نحو الانحجاب في تركيا بعد سنوات من النقاش والأخذ والرد، وتكتفي القواعد الاسلامية بهذا الانتصار الذي سجلته، أم أنها مجرد هدنة مؤقتة قبل التحرك مجددا نحو توسيع رقعة التمدد ولائحة المطالب؟ أيام قليلة ونعرف ما اذا كان هذا الحل السياسي لمسألة تتعلق بحرية الاعتقاد، لكن بمواصفات دستورية مميزة، سيرضي فتياتنا الجامعيات، أم لا، لكنه يقلقنا نحن الاكاديميين، خصوصا اذا ما طلب الينا أن نتحول الى خبراء في علم الأزياء وطريقة التحجب، نقف وبيدنا مواد القانون الجديد لنقارن ونقرر، اذا ما كانت فتياتنا يلتزمن بمضمون وتفاصيل هذا التعديل ام لا! مما يتطلب الكثير من الشجاعة والاستعداد لفعل ذلك على ابواب الجامعات، أو داخل قاعات المحاضرات.

* أكاديمي وكاتب تركي