فينوغراد.. ماذا حلّ بإسرائيل؟

TT

تستمرّ الأمم عندما تتأقلم مع المتغيّرات في عالم داروينيّ الصفة. كذلك، تستعيد الأمم عافيتها عندما تكون قادرة على استيعاب خسائرها.

يقول القائد العسكريّ الالماني الكبير فون مولتكه، إن افضل الخطط الحربيّة وأكملها، لا تصمد ثانية واحدة بعد بدء الحرب. فالخطط توضع عادة لحرب مُتخيَّلة، أو بالاحرى لحرب يرغب القادة العسكريّون ان يخوضوها. كذلك، تُعالج الخطط الحربيّة، حالة مستقبليّة (احتمال اندلاع الحرب) بعقل الحاضر ومفاهيمه ووسائله.

إذاً الحرب هي عمليّة تأقلم سريعة، بعد ان تكشف ارض الواقع ما كُتب على الورق. ومن لا يتأقلم يسقط.

قال بن غوريون مؤسس الدولة العبريّة، إن إسرائيل تسقط بعد خسارة أوّل حرب.

خاضت إسرائيل حرب يوليو (تمّوز) 2006. عكسَ الواقع مفاجآت كثيرة، لم تتأقلم، فكانت الهزيمة، وكان التقرير. أما مسألة سقوط الدولة، فهذا مسار طويل الأمد، وليس حالة خاصة في وقت ومكان معيّنين، الأمر الذي يذكّرنا بما كتبه المؤرّخ البريطاني الشهير ويدجوود عن ان التاريخ يُكتب بنظرة إلى الماضي، لكنه يُعاش بنظرة إلى المستقبل. فنحن نكتب ونحكم على ما كان وحصل، لكننا حتما لا نعرف ماذا سيكون عليه الآتي.

تندرج عقدة إسرائيل الجيوبوليتكيّة في أبعاد ثلاثة هي: الجغرافيا، الطوبوغرافيا والديموغرافيا. وبعمليّة استرجاعية لكلّ حروب إسرائيل، قد يُمكن القول ان روحيّة هذه الحروب وأهدافها، لا تخرج عن الابعاد المذكورة. حتى ان كل المشاريع السلميّة المستقبليّة تقوم ايضا على هذه الابعاد. من هنا اهميّة الجولان الجغرافيّة، وأهمية مرتفعات الضفة الاستراتيجيّة ـ الامنيّة طوبوغرافيّا، كما موضوع العرب الاسرائيليّين الديموغرافيّ.

في هذا الاطار العام، يأتي القاضي فينوغراد بتقريره، فماذا عنه؟

عندما تتألفّ لجنة تحقيق في إسرائيل، فهذا يعني ان هناك أزمة مصيريّة كبرى في الكيان الصهيوني. كانت لجنة اغرانات للتحقيق في اسباب الفشل في حرب اكتوبر 1973. وكانت لجنة كاهان للتحقيق في مجازر صبرا وشاتيلا بعد اجتياح الجيش الاسرائيلي لبيروت. وأخيرا وليس آخرا، تصدر لجنة فينوغراد تقريرها بعد فشل الجيش الاسرائيلي في حرب 2006.

ومن غريب الصدف، ان يكون هناك تقاطع كبير، وفي مجالات عدة بين تقرير اغرانات وتقرير فينوغراد. فالتقريران ركّزا على مسؤوليّة الجيش الاسرائيلي في المجالات الآتية:

الفشل على صعيد القيادتين السياسيّة، كما العسكريّة ـ غولدا مائير، بيغن وشارون، واولمرت، دايان، حالوتس.

النقص في الاستعلام والاستخبارات.

الانضباط ضمن صفوف الجيش، كما الفشل في التعبئة.

كانت حرب اكتوبر بين دولة ودولة. كان اجتياح لبنان بين دولة ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة. اما حرب 2006، فهي بين دولة وتنظيم اسلامي لبناني. وإذا كانت منظّمة التحرير قد دُمّرت، وأخرجت من لبنان. فإن حزب الله، هو تنظيم لبناني سيبقى مجاورا لإسرائيل لأمد طويل.

وإذا كانت الحروب السابقة قد خيضت في الخارج، مع استقرار إسرائيلي داخلي، فإن حرب تمّوز وتداعياتها دارت، ولا تزال تدور في ظلّ شبه حرب داخليّة إسرائيليّة مع حماس.

وإذا كانت الاصلاحات المطلوبة في التقارير السابقة تدور حول تعديلات محدّدة يُمكن تجاوزها، فإن حرب تمّوز تتطلّب إصلاحات جذريّة في السلطتين السياسيّة والعسكريّة. فالفشل كان عسكريّا وسياسيّا، إن كان في القرار او التنفيذ. كذلك، كان الفشل على الصعيدين الاستراتيجي وفي التطبيق العمليّ على ارض الواقع. ايضا، وصل الفشل إلى المستوى التكتيكي، وهذا امر يعني سقوط الجيش، وهو العمود الفقري لاستمرار الكيان، فعادة يُقال: «للجيش الاسرائيلي دولة، وليس للدولة الاسرائيليّة جيش». وأخيرا وليس آخرا، فشلت إسرائيل وفق التقرير، في اتّباع نصيحة كلوزفيتز الشهيرة التي تقول بالتوازن المستمرّ بين الاهداف والوسائل.

إذاً هناك انهيار للنظام السياسي ـ الاستراتيجي للدولة العبريّة. وهناك مشكلة في القيادات السياسيّة، كما في القيادات العسكريّة. وإذا اعتبرت إسرائيل انه يمكن إجراء ثورة في الشؤون العسكريّة عبر إدخال احدث التكنولوجيا في العقيدة العسكريّة، لتقاتل بذكاء وعن بُعد تجنبّا للضحايا البشريّة، فهي اليوم وبعد تقرير فينوغراد، ترى ان عليها ان تُحارب، ليس حروب ما بعد الحداثة وبجيش ما بعد الحداثة، لا بل عليها ان تعود الى حروب ما قبل الحداثة.

وهنا قد يُمكننا اعتماد المبدأ الذي بشّر به المفكّر الاميركي توماس كون، والذي يقول: «إذا كانت القوانين والمفاهيم والتدابير القديمة غير نافعة للتعامل مع الواقع الحالي، فهذا قد يعني ان هناك تغيّرا جذريّا في المفاهيم Paradigm Shift.. وهذا امر يتطلّب ابتكار قوانين ومفاهيم وتدابير جديدة قادرة على التعامل مع التغيّرات الجذرية». هكذا هو واقع إسرائيل اليوم. فقد تبدّلت البيئة الامنيّة والاستراتيجيّة، الدوليّة كما الاقليميّة. كما تبدّل شكل العدو ونوعه. وأيضا تبدّلت إسرائيل جذريّا في المجالات والسياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة.

في الحروب السابقة، انتصرت إسرائيل لكنها لم تفرض حلولها السياسيّة. أما حرب تمّوز فتمتاز بالفشل المزدوج لإسرائيل في الحرب كما السياسة.

إذاً على إسرائيل اليوم ان تستمرّ، كما عليها استنباط الحلول السحريّة. لذلك عليها ان تأخذ الدروس والعبر. لكن الدروس والعبر تستلزم الوعي للواقع الجديد، من ثم الترجمة العمليّة للدروس المُستقاة وبوعي جديد، من المستوى الاعلى وحتى الادنى، افقيّا وعموديّا، لكن مع التذكير بان النجاح المستقبليّ هو امر غير مضمون، وهذه عمليّة طويلة الامد. فالمطلوب اليوم، وفق التقرير، ان يكون هناك ثقافة جديدة سياسيّة وعسكريّة في إسرائيل. لكن التغيير هو مسار طويل، متبدّل، وليس قرارا يؤخذ في لحظة واحدة، خاصة ان الأخطار اليوم على إسرائيل، هي غيرها التي كانت في الماضي. إسرائيل اليوم مشتعلة في الداخل ومهدّدة من الخارج.

حتى اليوم، قامت إسرائيل بعدّة محاولات لاستعادة قدرتها الردعيّة عقب حرب تمّوز. فكانت المناورات العسكريّة في الجولان كما في شمالها. كما شكّلت الغارة الجويّة على دير الزور في سورية جزءا اساسيّا من محاولة استرداد الصورة الردعيّة.

تأخذ إسرائيل اليوم العبر والدروس المستقاة من فشلها. وحزب الله يقول بنصره الالهي، وهو الذي أخذ العبر والدروس من نصره فور صمت المدافع. وفي حالة النصر والهزيمة، يكون المنتصر عادة زاهيا بنصره. اما المهزوم، وهو الاكثر وعيا، فيُعدّ العدّة للقاء آخر ـ عقلانيّة المُصاب ـ ما قاله سيبيو لبوليبوس على انقاض قرطاجة.

فهل ستخوض إسرائيل حرب الغد بعقليّة حرب تمّوز؟ وهل سيُدافع الحزب عن لبنان وعن نفسه بعقليّة نصره الالهي؟

ردّا على هذه الاسئلة، قد يمكن القول ان العسكر كما علّمنا التاريخ، يخوضون حروب المستقبل بعقليّة آخر حرب وقعت.

وإذا اعتبرنا ان نصر حزب الله هو الهيّ، فإن مقولة كلوزفيتز عن ان «الحرب هي السياسة بوسائل اخرى» تسقط حتما. فالسياسة زمنيّة، اما الدين فهو لا زمنيّ، عابر لكلّ الازمان والأوقات. فكيف سيُترجم النصر الالهي وأين؟

قد يصحّ هنا استذكار ما قاله الإمام عليّ كرم الله وجهه: «من كثُر كلامه، كثُر خطؤه».

لذلك المطلوب اليوم الصمت، والكثير منه.

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي