يا أميركا.. دعكِ من الديمقراطية وجرّبي «الممانعة»!

TT

حتى السيد عمرو موسى لو سئل همساً في مجلس ـ والمجالس بالأمانات ـ لأقرّ بأن اضطلاعه بتسويق «المبادرة العربية» في لبنان، كان محكوماً بالفشل منذ البداية.

فأي إنسان قادر على اجتياز امتحانات محو الأمية، يعرف هشاشة هيكلية جامعة الدول العربية، وقدرة أي دولة عضو على تعطيل قراراتها. ذلك أن القرارات عملياً تتخذ بالإجماع، ومن دون إلزام وفي غياب أي أدوات للتنفيذ. وهذا يعني أنه إذا كانت المعارضة اللبنانية ما زالت تطالب بـ«ثلث» معطّل.. يكفي في جامعة الدول العربية وجود نسبة الـ«1 على عشرين» المعطلة لتفشيل أي مسعى ونسف أي خطوة مشتركة.

وإذا تذكّرنا أن العرب برغم حجمهم السكاني الضخم، أضحوا الآن «كومبارس» المنطقة بين «ثالوثها» القوي إسرائيل وإيران وتركيا، واحتدام الصراع الإقليمي ـ الدولي فيها،.. لاستوعبنا بسهولة كيف يترجم الهزال العربي المقيم نفسه انقساماً واستزلاماً وانهيارات في كل بؤر التوتر المحلي والفتنة الفئوية الداخلية.

إزاء هذه الخلفية المحبطة، فضّلت اليوم متابعة تطوّرات أخرى سيكون لها تأثيرات بالغة على عالمنا العربي، بعد نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.. هي الانتخابات الرئاسية الأميركية. ففي عصر «الأحادية الأميركية»، المستمر حتى إشعار آخر، ستخاض كل المواجهات الإقليمية من قلب واشنطن وعبر «كتل الضغط» الناشطة والفاعلة فيها.

قد يستغبينا نفرٌ من المزايدين وأدعياء النضال عندما يرفعون عقيرتهم بشعارات جوفاء، استبعد أن تنطلي حتى على أطفالهم، وقد يخوِّنوننا ـ كما نراهم يفعلون هذه الأيام ـ، لكنهم محكومون في نهاية الأمر بحقائق على الأرض. ولئن كانت مصالح الشعوب الضعيفة ومصائر الدول المستضعفة، تبدو قليلة الأهمية في حسابات «الكبار» في كثير من الأحيان، فإن الثقافة والممارسة السياسيتين عند «الكبار» تقومان على مفهوم «دولة المؤسسات» التي تعتمد على فصل السلطات وفق ما يسمى بـ«الضوابط والتوازنات» Checks and Balances،

ومن ثم امتداد هذه الضوابط والتوازنات من القمة (الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية) إلى المستويات الأدنى، حيث تتعايش المصالح المتعاكسة من دون هيمنة أو إلغاء أو كيدية أو تعطيل دائم.

وفي أميركا، بالذات، يمكن بسهولة ملاحظة كيف أن ولايات مثل كاليفورنيا تميل إلى الحزب الديمقراطي، فتقترع لمرشحه الرئاسي وتختار منه ممثليها في مجلس الشيوخ، لكنها مع ذلك تصوّت لانتخاب حاكم جمهوري، وولايات أخرى جمهورية ومحافظة مثل كنزاس وأوكلاهوما تنتخب حكاماً ديمقراطيين.

وبما أن الكلام يتناول حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، من المفيد لنا، نحن أبناء الجزء الأكثر تخلفاً في «العالم الثالث» على صعيد تطوّر المؤسسات السياسية، أن نتعلم من الدرس الحيّ، الذي قدمته لنا منذ الشهر الفائت الانتخابات و«التجمّعات» الانتخابية التمهيدية للحزبين الديمقراطي والجمهوري.

من المفيد أن نتعلم من دور المواطن الأميركي الحرّ، ومن مستوى إدراكه مسؤولياته في التوصل إلى خياره المستقل بلا إكراه أو ابتزاز.. أو حتى شراء ضمائر. وأن نكتشف كيف أن من سيكون خلال أشهر معدودات «الزعيم الأقوى في العالم» محكوم وملتزم أمام جمهور عريض من الناس العاديين بمواقف وكلمات وردات فعل عاطفية، قد تصدر عنه بلا قصد أحياناً. وأن نلحظ وجود سقوف وضوابط للإنفاق المالي على الحملات الدعائية.

طبعاً، ممارسة الديمقراطية الانتخابية في أميركا ليست مثالية في أي حال من الأحوال، وإذا كنا بحاجة إلى دليل دامغ على ذلك، فدوننا النسبة المتدنية نسبياً (بين 50% و60%) لمن يقبلون على التسجيل أو التصويت في الانتخابات الرئاسية. ثم ان آفة «كتل الضغط» (اللّوبيات)، بلا شك، ظاهرة نافرة ومنفّرة لا نجدها في الديمقراطيات المتميزة في دول أوروبا الشمالية وألمانيا والنمسا وسويسرا.

مع كل هذا، وبكل أمانة، هل يمكن مقارنة ما لديهم وما لدينا؟

اعتقد أنه لا مبرّر لجلد الذات كثيراً. ولكن يكفي الإشارة إلى بضع جوانب يتفوّقون بها علينا، منها على سبيل المثال لا الحصر:

أن الشعب عندهم يصنع رؤساءه وساسته،.. أما عندنا فيحصل العكس، إذ يجب على الشعب أن يكون دائماً على قياس الرئيس، وإلا وجب تلقينه و«تغييره».

الانتخابات عندهم تخوضها أحزاب لها برامج،.. بينما عندنا تخوضها قبائل وطوائف عندها مخاوف أو أطماع ـ أو حتى أحقاد ـ وتتستّر خلف أحزاب بأعلام ورايات ملونة، وبعضها مسلح.

السياسي المنتخَب عندهم ابتداءً من رئيس الجمهورية في رأس الهرم، ونزولاً إلى رئيس أصغر بلدية مَدين بموقعه للمواطن أو الناخب، ولذا فهو خاضع للمساءلة والمحاسبة، .. لكن عندنا الزعماء «آلهة» أو «أنصاف آلهة» منزّهون عن الخطأ.. ولو كان بحجم الهزائم العسكرية والمجازر الجماعية.

النظام السياسي عندهم يفصل بين السلطات، ويجمع بين المكونات الشعبية،.. أما عندما فرأس «اللا نظام» يجمع في يديه السلطات.. ويفصل بين مكونات الشعب للتأكد من استمرار عجزها واستكانتها.

عندهم تحقيق الازدهار الاقتصادي غاية النظام السياسي وواجب عليه،.. في حين هو عندنا مِنّة وصدقة جارية، يتفضل به أصحاب «اللا نظام» ويمنّن به الشعب، وبالشكر تدوم النعم!

عندهم حرية الفرد والمجتمع هي الأساس الذي تبنى عليه السيادة الوطنية،.. لكن الأساس عندنا هو تقيد الفرد والمجتمع بالولاء غير المشروط، لمن يصادر هذه السيادة، ولو بالقوة!

هذه الفوارق الجوهرية بين ما عند الأميركيين وما عندنا نحن، أفرزت لأميركا «مؤسسات سلطة» أقوى بكثير وأرسخ بكثير من كل الحاكمين المتعاقبين، بينما اعطتنا حاكمين أقوى سطوة وأطول عهوداً، وأثقل تأثيراً من أي «مؤسسات سلطة».

وختاماً، إذا كان لي من نصيحة أسديها للرئيس الجديد (أو الرئيسة الجديدة) في أميركا، فهي المقارنة جدياً بين التجربتين، والمفاضلة بين ديمقراطية تحجّم النفوذ وتحدّد فترة الحكم وتبقي «البيت الأبيض» رهينة لمزاجية الناخبين،.. وبين «ممانعة» مناضلة عصيّة على الاستسلام عنوانها التسلّط، وغسل الأدمغة، وترويض المواطن وتدجينه ضماناً لطاعته «الببغائية» بحيث تنتفي الحاجة لأي انتخابات أو مساءلات مزعجة في المستقبل.