غفلة القسيسين

TT

عندنا «غفلة الصالحين» وعندهم «غفلة القسيسين»، هذا هو الانطباع الذي خرج به أحد المحللين بعد القنبلة النووية الفكرية التي فجرها الدكتور(روان ويليمز) كبير أساقفة الكنيسة البروتستانتية البريطانية حين دعا إلى إدخال بعض أحكام الشريعة الإسلامية في القانون البريطاني، وفي تقديري أن تصريح رجل بهذه المنزلة الكنسية العالية ـ فهو يعتبر «بابا» المذهب البروتستانتي ـ لم تأت زلة لسان ولا سوء تقدير ولا يمكن أن تكون من «غفلة القسيسين»، بل من الغفلة أن يتهم مثل هذا الرجل بالغفلة، إذ يقول عنه (ستيفن لو) أحد الأساقفة البريطانيين المعروفين «القسيس ويليمز أحد أعظم وألمع كبار أساقفة كانتربري، ولم تعرف مثله الكنيسة لمدة طويلة، إنه ربما يمثل أحد ألمع العقول لهذه الأمة».

لا يمكن تصور ثورية هذا التصريح الملتهب لكبير الأساقفة البريطاني إلا إذا افترضنا تصريحا لشيخ الأزهر يدعو فيه مثلا إلى تعديل في القانون المصري ليستوعب وينسجم مع بعض القوانين المسيحية!! واللافت في تصريح القسيس ويليمز أنه من قيادة دينية عليا، والمتعود عليه أن أية شخصية دينية قيادية في الدنيا تنزع في العادة إلى الدفاع عن حياض ديانتها وأتباعها وتكون في الغالب أقل تسامحا، أو بعبارة أكثر دقة أقل حماسة في الحديث عن حقوق معتنقي الديانات الأخرى، إلا أن كبير الأساقفة البريطاني كسر القاعدة وتجاوز الدفاع عن حقوق الأقلية المسلمة في بريطانيا التي لا تشكل أكثر من 4% من سكان بريطانيا إلى المطالبة بتعديلات في القانون البريطاني لاستيعاب تشريعات إسلامية جديدة، وهو ما لم يطمح للمطالبة به حتى أكثر قيادات الجالية الإسلامية تحمسا.

إن تناغم وانسجام بعض الشخصيات الدينية المسيحية مع أتباع الديانة الإسلامية في الدول الغربية ليس بالطبع أمرا شائعا ولكنه ليس نادرا، ولا زلت أتذكر حين كنت أعمل في المركز الإسلامي في لندن أن قسيسا في إحدى كنائس لندن أبدى رغبة أكيدة في أن يشتري مسلمون كنيسته التي عرضها للبيع لتحويلها إلى مسجد، وعلل رغبته بأن الله يعبد في مساجد المسلمين، بل إن مدرسة مسيحية للبنات في لندن ترفض أن تقبل طالبة مسلمة في المدرسة المسيحية حتى يحضر ولي أمرها ما يثبت التزام الأسرة بتعاليم الإسلام كارتياد المسجد للصلاة مثلا، وقد طلب مني شخصيا أحد أولياء الأمور الذين تقدموا لهذه المدرسة غير المختلطة أن أكتب لمدير هذه المدرسة المسيحية عن شهادتي له بتردده في الصلاة معنا في المركز الإسلامي في لندن.

ثمة شيء لافت في ردود الفعل البريطانية على تصريح كبير القساوسة البروتستانت، فعندما سمع عن هذا التصريح المثير (تشارلز مور) وهو كاتب في صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية، رفع من حيث لا يدري الشعار الشهير لسيد قطب (خذوا الإسلام جملة أو دعوه) فكتب مقالا تحت عنوان (أيها الأسقف: بالنسبة للشريعة، إما كلها أو لا شيء) ويقصد التهكم بدعوة الأسقف البريطاني، فإما أن يطبق أحكام الشريعة كلها بما فيها قطع يد السارق ورجم الزاني أو يتركها كلها.

والأكثر لفتا للانتباه أن مطالبة كبير القساوسة بتغيير في القانون البريطاني لصالح الشريعة الإسلامية جاءت متزامنة مع المطالبة في تركيا هذه الأيام بتغيير في الدستور التركي ليسمح للطالبات بارتداء الحجاب في الجامعات، يعني أن كلا الطلبين قدما لتعزيز موقع الشريعة الإسلامية في الدستور البريطاني والدستور التركي، لكن المفارقة الكبرى أن الطلب الأول أمر تشريعي جوهري يمس الدستور وصدر من كبير الأساقفة في بلد مسيحي، والمطالبة الثانية من كبير الإسلاميين في شأن شكلي وهو الحجاب في بلد مسلم أغلب نسائه محجبات، وزوجتا رئيس الدولة ورئيس الوزراء محجبتان!! مفارقة تجعل الحليم حيران.

[email protected]