لا يستطيع إلا أن يعرف!

TT

طبيعي أن يحاول الإنسان أن يعرف، حتى لو لم تكن هناك فائدة في أن يعرف، مثلا: كم عدد موجات البحر؟ كم عدد ذرات الشاطئ ؟ كم عدد النجوم في السماء.. أصل البحر.. أصل الرمل.. أصل النجوم؟ كيف تبلبلت الألسنة؟ ورحنا نتحدث مئات اللغات وألوف اللهجات.

ولكنها طبيعة العقل أن يعرف أو يحاول ذلك.. وأن يذهب إلى أبعد من الشاطئ إلى أعماق المحيطات جرياً وراء الشاطئ الآخر، فالإنسان هو الحيوان الذي يحرص على أن يذهب أبعد وأعمق.. تحت قدميه أو فوق دماغه، وهذا هو الفرق الوحيد بينه وبين الكائنات الأخرى.. فالأشجار تموت واقفة ولا تبرح مكانها.. والحيوانات تموت في أوكارها أو أعشاشها ولا تعرف أكثر مما ترى عيونها أو تسمع أذانها.. والإنسان هو الوحيد الذي يعرف أنه يعرف وأنه أقوى وأذكى. صحيح نحن جميعاً لم نختر أن نولد.. ولكننا نختار كيف نعيش وكيف نموت.

وفي رواية للكاتب الفرنسي فكتور مالد ظهرت في القرن التاسع عشر اسمها «بلا عائل».. أو واحد لا أب له ولا أم.. نقرأ حكاية طفل كبير اكتشف إن والديه ليسا والديه، وإنما هما وجداه ملفوفاً في قماش من الحرير في أحد أركان الشارع، ونشأ على أنه ولدهما، واكتشف أنه ليس كذلك.. ثم باعاه لأحد الأرجوازات .. أي واحد عنده ثلاثة كلاب وقرد يتنقل بها من مكان إلى مكان، الناس يتفرجون ويدفعون، واختلف الولد مع الرجل الذي اشتراه، وكان قد تعلم الصنعة وبرع فيها، وجعل لحياته هدفاً آخر، أن يعرف من هو أبوه الحقيقي ومن هي أمه، وذلك بالبحث في كل جوانب فرنسا.. وسافر إلى بريطانيا.. وفي لحظة توقف وسأل نفسه: وما فائدة أن أجدهما.. وماذا أقول لهما، ألعنهما؟ أبصق في وجهيهما؟ إنها جريمة وانتهت، وأفضل ألف مرة أن أكون بلا أبوين أكرههما.. وتوقف عن البحث، فلا جدوى من المعرفة.. إنهما ألقياه وتخلصا منه كالقمامة تماماً، فإذا عرفهما تأكد لديه أنه زبالة.. أنه نفاية بشرية.. فالأفضل أن يعيش مجهول الأبوين.. ولكنه قرر أن يواصل البحث وأن يعرف عنهما من دون حديث معهما، وبس!

أي يواصل البحث من دون أن يكون للنهاية أي معنى.. فلا أحد يستطيع أن يصلح ما قد حدث، ولا أن يغير الماضي، ولا أن يمحو هذه الإهانة!