شرف البنت وشرف الشعب

TT

دعيت قبل أيام لإلقاء كلمة في حفل الاستذكار الذي أقيم في لندن تأبينا للواء قيس المعموري، قائد شرطة محافظة بابل الذي اغتيل مؤخرا على يد المعارضين للإصلاح والأمن. لم يكن الشعب العراقي حاضرا في الحفل. فمن المناسب ان أعطي حلقة اليوم لنص هذه الكلمة:

قبل بضعة أسابيع ألقيت محاضرة في سجن شبتن مالك. هذا سجن مخصص للمحبوسين مدى الحياة. التقيت بعد المحاضرة بالسجناء. واحد منهم ارتكب جريمة، قتل حبيبته لما كان في العشرين، وهو الآن في السبعين. خمسين سنة يدفع ثمن ذلك العمل الطائش في زمن الشباب. منتهى اللاانسانية في رأيي. رأيت كل السجناء نادمين على ما فعلوا. زيارتي تركت أثرا عميقا علي.

ما يحدث للأفراد يحدث للشعوب. ترتكب خطأ في ساعة طيش وجهالة وتبقى تدفع الثمن لأجيال. خير مثال الفلسطينيون. ارتكبوا خطأ في 48 وبقوا يدفعون ثمن ذلك الخطأ. نحن ارتكبنا خطأ في 58، ثورة تموز. وكل هذي المصايب ترتبت على ذاك الخطأ. المصيبة ان العراق يرتكب الآن خطأ اكبر ربما سيبقى يدفع ثمنه لأجيال. هذا الخطأ هو تبني القتل والخطف والإرهاب. المفروض في الجريمة ان يرتكبها الانسان ضد غيره. ولكن العجيب في أمر العراق هو انه يرتكب جريمته ضد نفسه.

كتبت بعد سقوط صدام حسين، ان امام العراق الآن أعظم فرصة للنهوض والازدهار. فالعالم أخذ ينظر للعراق بعطف كبير كشعب عانى كثيرا ويستحق المساعدة والدعم. راحت الجمعيات الخيرية العالمية تعد نفسها لمساعدتنا. وبعثت بالفعل بمن باشروا بهذا النشاط. وتأهبت الشركات الكبرى للاستثمار وإقامة المعامل والمشاريع بفضل ما في البلاد من نفط ومياه وثروات وكوادر قادرة. وخصصت الدول الكبرى الملايين للمساعدة. ومن ناحيتها حلمت امريكا بتحويل العراق الى درة من الدرر الناجحة للبرنامج الامريكي في نشر الديمقراطية بالقوة ليصبح قدوة لدول الشرق الاوسط الاخرى. وبعين الوقت تأهبت الكوادر العراقية البارزة في الخارج للعودة والمساهمة في العمل. انا بالمناسبة، طرحت نفسي ثلاث مرات للعودة والعمل في العراق ورفضوني. تبددت كل هذه الأماني امام لجة الارهاب وفاتت هذه الفرصة الرائعة.

يقول يوسف وهبي في أحد افلامه إن شرف البنت زي عود الكبريت. ما يولعشي غير مرة واحدة. كذا الحال مع كرامة الشعوب. إذا اعتادت المرأة العراقية على البغاء في سوريا وبغداد لتعيش، وإذا اعتاد شبابنا على الخطف والسلب لكسب الفلوس، وإذا دأب المسؤولون على الرشوة والاختلاس، ووجد الساسة القتل خير وسيلة لحل النزاع وفرض الرأي، فكيف سيستطيع العراق ان يتخلص من هذا العار؟ واذا ادرك الناس ان الانتماء الطائفي خير وسيلة للحصول على عمل، فكيف سيستطيع البلد ان يخرج من هذا المستنقع ويستعيد كرامته ويبني مستقبله؟

لقد تخلصوا من ذلك الشاب الذي قتل حبيبته في العشرين من عمره بوضعه في سجن مدى الحياة، فأين هو ذلك السجن او البيمارستان الذي ستستطيع الأسرة الدولية ان تضع فيه العراق حتى يستعيد رشده؟