مما جرى في مصر

TT

الحال في مصر المعمورة، يلخص، ويخلص أيضا، الحال في البلاد العربية المحشورة في صندوق عالق في بحر الظلمات، بين مستقبل يومض من بعيد، وماض يمسك بزمام اللحظة.

مصر، في كثير من الأحيان، تصلح معيارا ومرآة تبدو عليها كل مشكلات العرب والمسلمين.

في غضون الأيام القليلة الماضية، رأينا مشاهد عدة في مصر:

فوز فريقها لكرة القدم ببطولة أفريقيا، أو «الفراعنة» كما يحلو لأهل الرياضة وللمصريين أن يصفوا الفريق.

ورأينا حكم المحكمة الإدارية العليا التي قضت بعودة 12 مصرياً إلى المسيحية بعد اعتناقهم الإسلام، وألزمت المحكمة وزارة الداخلية إصدار أوراق ثبوتية جديدة لهم يدون فيها أمام خانة الديانة قبطي سبق له اعتناق الإسلام.

وقبل ذلك، في أواخر يناير الماضي، كان القضاء المصري قد منح أتباع الحركة البهائية المصريين الحق بالحصول على بطاقات هوية شخصية بدون ذكر انتمائهم الديني فيها، بعد جدل طويل، وعدم الاعتراف بهم دينيا وثقافيا. والمحكمة خرجت من هذا الجدل، وحكمت بعد لزوم ذكر الديانة وعوضت ذلك بوضع علامة خط أفقي أمام الخانة.

من المشاهد الملاحظة التغير في لهجة بعض الصحف المصرية إزاء الموقف من تعدي ميليشيا حماس على الحدود المصرية وفرض الأمر الواقع على الدولة المصرية، وما رافق ذلك من اشتباكات بين حرس الحدود وجنود حماس، حيث تغيرت اللهجة من تأييد «على بياض» تحت عنوان «التعاطف مع غزة» إلى التعاطف مع مصر نفسها!

وأخيرا، وفي مشهد حزين، رحل رجل من رموز الثقافة والاستنارة، سخر حياته الصحافية الحافلة لخدمة النقد والتنوير في العالم العربي كله، ليس في مصر وحدها، وهو الناقد رجاء النقاش.

بضم هذه المشاهد إلى بعضها نرى صورة لمصر تشير إلى رسوخ الحالة المدنية والانتصار للمفهوم المدني، لا الديني، للمواطنة، كما تبين من حكم القضاء المصري في قضيتي الأقباط والبهائيين. وهو ما لقي ردة فعل تذهب للمزيد من التجذر في المصرية والمواطنة، كما فعلت بعض الأصوات القبطية التي رحبت بهذا القرار مطلقة الهتافات بحياة وقضاء مصر ومجددة الولاء لها، وهذا ما يشير إلى أن الانفتاح يحيي ولا يميت، يقوي ولا يضعف، عكس ما يتوهمه الخائفون من الهواء والنور والشرفات المفتوحة.

كما تشير هذه الصورة، المكونة من هذه المشاهد المتفرقة، إلى غلبة الشعور الوطني لدى المصريين على ما سواه من المشاعر، حيث اختفت في لحظة واحدة كل الفروق في الاصطفاف خلف المنتخب الوطني، وهنا يجب أن نكون حذرين، فمع الإقرار بجمالية الاحتفال ورمزيته الجامعة لكل المصريين، لكن لا نبالغ في قراءة دلالات الفرح الرياضي/ الوطني، ونعديه إلى مجالات أخرى، يجب أن لا نغفل عن أن هذا الفرح هو مزيج بين العفوية والتعطش للحظة انتصار جامعة أو مجرد حماس لحظي محكوم بسيكولوجية التنافس البحت، أي تنافس.

هل يعني هذا أن الحديث الطويل العريض عن تآكل الثقافة المدنية في مصر، ومن خلفها كثير من العرب، وصعود الخطاب الأصولي، وهيمنة ثقافة الحذر والانغلاق، والضيق بالانفتاح، وصعود الأصولية، وتراجع النقد والتنوير، هل هذا الحديث كله لا معنى له ومبالغ فيه؟!

يحسن أن لا يجيب الإنسان حتى يرى الجانب الآخر من الصورة ، بل لنقل الجانب «الأغلب». فهذه المشاهد التي اشرنا إليها قبل قليل، يبدو أنها ليست إلا ومضات في ليل دامس، فما يجري الآن في مصر وسواها من العالم العربي، هو هيمنة الثقافة التخويفية والعدائية ضد الآخر، وتكريس المفاهيم المنغلقة على الذات المجترة لخطابات النكوص والانكفاء، وترويج نوع «سطحي» من الثقافة الدينية يقوم على التصوير الوهمي للتاريخ الإسلامي، تصويرا ساذجا خاليا من أي مسحة نقد أو بصيرة، بل إعادة إنتاج مؤسطرة للتاريخ ورجاله وأحداثه من اجل بيعه على الجمهور المنصت في لحظة خدر عقلي ونقدي، كما في اقصوصات عمرو خالد... مثلا.

حديثنا هنا ليس عن التدين المجرد، فهذا كان، وما زال، وسيظل، سلوكا طبيعيا يمارسه الإنسان بلا افتعال ولا تكلف، وفي كل المجتمعات الإنسانية، نحن هنا نتحدث عن «وصفة» شاملة في السياسة والمجتمع والاقتصاد والتعليم و...الرياضة أيضا، وصفة ملفوفة بعباءة دينية، تقول: نحن النقاء والحق، وغيرنا اللوثة والباطل، في حين أن منطق السياسة وقانون الحراك الاجتماعي لا يعترف بهذه المحددات والمعايير الخارجة عن الدنيا إلى الجو العالي.

يقول الأصوليون السياسيون، بنشوة: لقد انتصرنا، وهذه هي «الصحوة» وذهب كل شيء سواها إلى مزبلة التاريخ، وعادت الأمة إلى رشدها، وعرفت من هم جنود الله والأيدي المتوضئة، ومن هم عملاء الصليبيين وخونة الأمانة التاريخية ... وما شابه هذا الكلام الاحتفائي، الآتي في سياق الكيد للخصوم.

الحق أن الأصوليين على جانب من الحق حين يتحدثون عن أنهم الأقوى في المشهد العربي، وان الجماهير تثق بهم ، ولكن الجانب الآخر من الكلام يتم الغفلة، أو التغافل عنه، وهو أن اللحظة الأصولية التي تعيش في خضمها وتجلياتها سياسيا: حزب الله وحماس والإخوان والسروريون السعوديون، نماذج لهذا التجلي، أو اقتصاديا كما في موضة المصرفية الإسلامية، أو في الجانب الاجتماعي، الذي يتحول سريعا لدرجة «اللخبطة» كما في حالة الفوضى في زي المرأة المصرية المتحولة، من حجاب شامي إلى عباءة خليجية إلى تشادور إيراني إلى شيء مزيج من هذا كله، كما لاحظت شخصيا في أزياء المرأة في الشارع المصري حين كنت في القاهرة قبل أسبوعين.

صحيح أننا نعيش في خضم هذه اللحظة الأصولية، ولكن ما يغفل عنه أنه كانت هناك لحظات أخرى سبقتها، وكان فيها شمول واحتلال لجزئيات الحياة أيضا، كما في اللحظة الليبرالية الدستورية الوطنية في مصر من ثورة 1919 إلى 1948 حيث كانت بداية اضمحلال المرحلة الليبرالية في مصر، ولاحقا في غيرها، وهذه المرحلة المصرية هي أخصب المراحل، ولم تضمحل بسبب هزيمة 48 العسكرية، كما يلاحظ الناقد محمد رصاص في مقالته في جريدة «الأخبار» اللبنانية، بل بسبب إخفاق الحكومة في حل المسألة الزراعية، على وجه التحديد، وهو تفسير مثير، يستحق التأمل...

هذه المرحلة الليبرالية هي التي عرفتنا على مصر الثقافة والفكر والفن، مصر العقاد وطه حسين وشوقي وزغلول واحمد أمين، ومسرح الريحاني، ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وطلعت حرب، حتى الجيل الذي جاء بعدهم ليس إلا ثمرا من ثمار حديقتهم كنجيب محفوظ، وجاءت مرحلة الستينات التي غلب فيها المد القومي واليساري، وهي وان كانت مرحلة مراهقة وثورية سياسية، تراجعت فيها ثقافة الديمقراطية والليبرالية، إلا أنها كانت خصبة في ما يخص التقدم الاجتماعي والفني، وكان من نتاجها أناس مثل الراحل حديثا: رجاء النقاش، ولكن بدأت الرياح الأصولية بعد ذلك، ودعونا مع رجاء النقاش الذي جرب هو شخصيا شيئا من هذا المشهد «الجديد» كما يذكر صديقه الكاتب المصري حسين ابن احمد أمين، في كتابه «شخصيات عرفتها»، فحسين أمين يحكي لنا قصة نموذجية تلخص حالة الضمور النقدي العربي وصعود ثقافة الوصاية، حيث كان رجاء النقاش رئيس تحرير مجلة «الدوحة» الثقافية الصادرة من قطر، في موجة الهجرة لبعض المثقفين المصريين إلى الخليج ـ يوم كان الخليج بريئا ـ واستكتب النقاش حسين أمين فكتب بضعة مقالات حول التاريخ الإسلامي تخالف المستقر الأصولي النمطي عنه، فثارت ثائرة رجال الدين في قطر وعقدوا له محاكمة، رغم قرب النقاش من أمير قطر وصداقته الشخصية، انتهت باستتابة النقاش، وكتب بالفعل توبة، ثم إقالته، ثم تسفيره خارج قطر، وتوصية الصحافة العربية والمسلمة بعدم توليته منصبا صحافيا. (حسين احمد امين. شخصيات عرفتها ص145).

صفوة القول، مصر الدولة، مصر الثقافة المدنية، مصر القضاء المنتصر للمواطنة، مصر الانفتاح والمواطنة، هذه «المصر» التي رأينا جانبا من مشهدها الأيام الماضية، لا تعبر عن مصر الثقافة السائدة ولا الشعور الحاكم فيها، ولا الحراك الثقافي. فما هو سائد فيها من ثقافة اليوم، ليس ما كان سائدا في الزمن الجميل، يوم كانت مصر تنير العالم العربي كله.

ومن صفوة القول، مرة أخرى، إن الأصولية السائدة، هي المهيمنة بلا ريب، ولكنها، وهذا ما يجب أن يعيه قادتها وصناعها، لحظة مثل غيرها من لحظات لها بداية ونهاية، ويجب ان لا تسكرهم اللحظة عن التاريخ، فالتاريخ كما قال نجيب محفوظ في «السمان والخريف»: «واسع الصدر، وسيدافع عن نفسه بعد انقراض المتخاصمين جميعا...».

[email protected]