جندي في معارك شعب مصر للتحرر الوطني

TT

 لكل هؤلاء الذين يحبون جلد الذات، والتهوين من شأن السجل الحافل لمقاومة الشعب المصري، ضد الاحتلال الإنجليزي، وضد حكومات القهر، ورفض الخضوع والمظالم، أقدم كتاب «سعد زغلول فؤاد» لتوضيح أمور تفشى فيها الالتباس، وللتعرف على شهادة شاهد عيان لقضايا وحوادث وأحداث وشخصيات زخرت بها حقبة الأربعينات من القرن الماضي على وجه الخصوص، ولونتها أهواء بعض المؤرخين بألوان التعصب والتحزب، فاختلطت ملامحها بين التشويه والتجميل. الكتاب مكون من ثلاثة عناوين: «سعد زغلول يتذكر، مذكرات فدائي مصري، معارك شعب مصر للتحرر الوطني والديمقراطي»، وعلى الغلاف صورة الشاب سعد زغلول فؤاد خطيبا على خلفية لحشد من مظاهرات الأربعينات الشعبية والطلابية، بأعلامها الخضراء ذات الهلال والنجوم الثلاثة، مع علم الجمهورية، بألوانه الأحمر والأبيض والأسود، والنسر في بؤرته، وصدر عن المكتب المصري الحديث عام 2001.

هذا الكتاب شهادة مواطن مصري لم ينتم لأي تيار أو حزب سياسي على طول مسيرته، وإن تصادق مع الجميع وتخاصم، حين كان يرى الصداقة والخصومة تدعم هدفه الأوحد والوحيد: مقاومة المحتل والظالمين. في هذا الكتاب جمع سعد زغلول فؤاد حكاياته التي طالما رددها على مسامعي متفرقة وأنا لا أستطيع أن ألملم أطرافها لتشابكها وازدحامها وكثرتها، ولأن أسنانه الأمامية المهشمة، في واحدة من معاركه الكثيرة، كانت تجعلني ألتقط كلماته بصعوبة، خاصة عندما يجرفه الحماس وتتسابق الذكريات متناثرة من فراغات الأسنان.

سعد زغلول فؤاد، صديق وزميل صحفي، وإن كان من جيل يسبقني في الصحافة بسنوات طويلة، فهو من مواليد 26/2/1924، وبدأ مشواره الصحفي من منتصف الأربعينات. سماه أبوه «سعد زغلول» بوعي ذلك الأب بالقيادة الوطنية الشعبية التي كان يمثلها الزعيم سعد زغلول في أوج أحداث عام 1924 الذي صرع فيه قتيلا كبير المحتلين لمصر، السير «لي ستاك»، سردار الجيش المصري.

مزج زميلنا سعد زغلول بين دور المؤدي والراصد على مسرح الأحداث الوطنية التي اشتعلت بها مقاومة الشعب المصري للمحتل الإنجليزي فترة الأربعينات ومدخل الخمسينات، فسعد زغلول هو المجاهد في أروقة الصحافة، والصحفي المراقب والمشارك في خنادق الفدائيين، على القناة، وناشطي الحركة الوطنية.

عرفته وجها لوجه في دار الهلال عام 1966 عندما اجتمعنا زميلين بمجلة «المصور». كان اسم شهرته، الذي بدا به سعيدا هو: «سعد زغلول المجنون». ولم تكن صفة الجنون تعني لديه أو لدينا أية دلالة سلبية، فقد كان الجميع يرددها ضاحكا جامعا بين الإعجاب، والاندهاش، والصدمة والتخوف، لأن سعد زغلول كان يمكن بشطحاته أن يفعل أي شيء يقتنع به ويتصوره للصالح العام، خارج السرب والتوقع والترتيبات المتفق عليها.

لم يكن لي، في البداية، أي احتكاك مباشر معه، إلا تلك الإلتقاءات العابرة بين خروجه عاصفا من مكتب رئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير المصور وقتذاك، الأستاذ أحمد بهاء الدين، وبين فرصة استعدادي للدخول بعده مترددة خشية أن يكون من نصيبي دفع فاتورة إثارته أعصاب رئيس التحرير، فكنت أرفع يدي وأنا أدلف من الباب قائلة: «سامحوهم.. ما يقصدوش»! لأصرف عفاريت الغضب من المكان بالضحك. في ذلك الزمن كان سعد زغلول يبدو لي خليطا من شخصيتي زوربا اليوناني وجيفارا الأرجنتيني، لكن سعد زغلول لم يكن مقلدا لأي منهما، لأنه كان سابقا عليهما في حقيقته التاريخية الفدائية المصرية المسجلة في حركة مقاومة المحتل الإنجليزي على أرض الوطن.

في مدينة بني سويف كان ميلاده، تعلم في كتاب الشيخ مسعود، ثم تحول إلى التعليم النظامي في المدارس الأميرية ببني سويف قبل أن يقرر وزير المعارف العمومية نقله إلى مدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية بالقاهرة، التي كانت معروفة بشدة نظامها الصارم، بناء على شكوى إدارة مدرسة بني سويف للوزير من عدم تمكنها من تحقيق مبادئ الضبط والنظام طالما كان الطالب سعد زغلول فؤاد موجودا بالمدرسة، ونفذ الطالب سعد زغلول قرار النقل إلى المدرسة المعروفة بشدة النظام بالقاهرة ولكنه بعد أسبوعين من استقراره في المدرسة الجديدة وأثناء تجمع الطلاب بطابور الصباح ألقى كلمة ضد الإنجليز وحكومتهم بمناسبة حصار الدبابات الإنجليزية لقصر عابدين في 4 فبراير 1942، وخرج وراءه الطلبة ليلتقوا بطلاب المدارس الثانوية المجاورة، وتوجهوا إلى قصر عابدين هاتفين ضد الإنجليز والحكومة التي فرضت على الملك فرضا. في هذه السن المبكرة، 18 سنة، عرف سعد زغلول فؤاد مفردات: «القبض» و«الاعتقال» و«السجن»، فقد تم القبض عليه ليلا من منزله بلاظوغلي، وكانت له هواية العزف على الأكورديون، فأصر أن يأخذ معه أثناء القبض عليه آلته الموسيقية الحبيبة ولكن مأمور السجن احتجز الآلة بعد أن استراب فيها، وعندما تم الإفراج عنه، استدعاه وكيل وزارة الداخلية وأخذ يبدي اندهاشه واستنكاره من سلوك سعد زغلول فؤاد المثير للشكوك فكيف تصور أن بإمكانه أخذ أكورديون معه إلى السجن؟ وصدر قرار بفصل الطالب سعد زغلول من المدرسة شديدة النظام والصرامة وهو على أبواب امتحان إنهاء الدراسة الثانوية فذهب إلى قصر عابدين وطلب مقابلة الملك ليشكو له الفصل التعسفي!

التحق سعد زغلول فؤاد بعد ذلك بكلية الحقوق، جامعة فؤاد الأول، عام 1943، مزاملا معظم الحقوقيين الذين اشتهروا في ساحات القضاء المصري، لكنه لم يتخرج فيها إلا عام 1963، فقد ظل طالبا بها على مدى عشرين سنة مرفوعا على الأعناق هاتفا في المظاهرات، حين كان ذلك ممكنا، ومعتقلا ومسجونا وهاربا ومغامرا على مساحة الوطن العربي من العراق إلى المغرب، يفلت تارة من حكم بالإعدام في محاكم المهدوي الشهيرة في العراق، ليقع في براثن أكثر من محاولة لاغتياله.

توثقت علاقتي بسعد زغلول فؤاد في مرحلة فصلنا سويا من دار الهلال، واضطرارنا إلى اختيار المنفى بديلا مؤقتا عن السجن، كنت قد التحقت بالعمل مدرسة لمادة الدراما بكلية آداب جامعة المستنصرية في الفترة ما بين 1975/1980، وبينما أنا في حجرة الدرس فتح الباب ودخل سعد زغلول صاخبا: «صافي ناز معنا في بغداد!» أمام أنظار الطلبة المندهشين لم أجد ردا سوى: «اللي يروح في داهية ما يتوهش يا سعد!» كان سعد قد وصل بغداد قبلي عام 1974 وتركها قبلي كذلك عام 1979، بعد محاولة لقتله بالسم بتدبير تحالف بين شخصيات ناصرية مصرية وصدامية عراقية، وساعدني الله أن أكون المسخرة لإنقاذه فتمكن من السفر إلى باريس وأجريت له الإسعافات اللازمة وكتب الله له الحياة ليحتفل هذا الشهر بعيد ميلاده الـ84! فسبحان الله الفعال لما يريد.