ماذا خسر العالم بانهيار الاتحاد السوفيتي؟

TT

الاتحاد السوفيتي الذي اسسه لينين انهار تماماً في يوليو1991. ابتهجت امريكا لهذا الحدث، وأعلن الرئيس بوش «الأب» انتهاء الحرب الباردة وانتصار الولايات المتحدة الامريكية، وفرح المسلمون لا سيما الإسلاميون لذلك، ولكن لسبب مختلف إذ أن الاسلاميين كانوا يناصبون المذهب الشيوعي العداء، لأن ذلك المذهب يلغي دور الدين في الحياة باعتباره أفيوناً للشعوب؛ كان الاسلاميون يناصرون المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، وذلك ليس لعمالتهم لها كما كان يتهمهم الشيوعيون، ولكن لأن الغربيين من أهل الكتاب وهم في ذلك يحذون حذو المسلمين الأوائل في صدر الاسلام، الذين فرحوا لانتصار الروم «النصارى» على الفرس «الوثنيين» قال تعالى «غلبت الروم في أدني الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون..» سورة الروم الآيات «1 ـ 4»؛ ولكن وبعد مضي أكثر من 16عاماً ألا يحق لنا أن نتساءل هل كان انهيار الاتحاد السوفيتي من مصلحة العالم ومصلحتنا كمسلمين؟

إن الكون مليء بالثنائيات قال الله تعالي «ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» الآية 49 «سورة الذاريات» ؛ والعقل لا يدرك الأشياء إلا بالثنائية والمقارنة فلولا البياض ما عرف السواد فالعقل يدرك الاشياء بالضددية «وبضدها تتميز الاشياء». وفي البيئة خلق الله تعالى بعض الحيوانات ترياقا وقوتاً لحيوانات أخرى، فإذا تدخل الانسان بإبادة نوع منها تكاثر الآخر، وشكل خطراً عليه وعلى البيئة؛ وكذلك الحال في عالم الميكروبات والجراثيم؛ فالله هو الأحد الصمد لا كفؤ له، وهو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء، وهو الظاهر ليس فوقه شيء وهو الباطن ليس دونه شيء؛ ونعتقد انه لا يستقيم ولن يستقيم ان يصبح للعالم قطب واحد أوحد من دون منازع «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين» سورة البقرة آية 251؛ روسيا مرشحة للعب هذا الدور وكذا الصين، بل وأوروبا المتحدة مرشحة للعب هذا الدور المهم.

تولي ميخائيل غورباتشوف الحكم في الاتحاد السوفيتي في 11/03/1985 كآخر رئيس للاتحاد السوفيتي، وتبنى القيام بإصلاحات كان يرى انها لازمة وجوهرية لتجديد الحيوية والدماء في جسد الدولة فجاء بسياسة البروستيرويكا Perestroika «إعادة البناء» وسياسة غلاسنوست «الانفتاح» ولكنه لم يرض احداً... فالشيوعيون رأوا انه ارتد عن المبادئ الماركسية اللينينية، والليبراليون رأوا ان إصلاحاته ليست كافية ولا تشفي الغليل ولا تذهب الى نهاية الشوط.. ولكن الكوة التي فتحها غورباتشوف في جسم السد وظن انه متحكم فيها قد اتسعت واكتسحها فيضان عارم مما أدى لانهيار السد نفسه.

لقد كان التنافس كبيراً بين المعسكرين الاتحاد السوفيتي ومعسكره في اوروبا الشرقية والولايات المتحدة وحلفائها في اوروبا الغربية، الذين كانوا يتنافسون لكسب ود الدول النامية بتقديم القروض الميسرة والإعانات والمساعدات الفنية والتقنية والبعثات الدراسية، وكل ذلك توقف الآن وأصبح شحيحاً جداً؛ الاتحاد السوفيتي كان مناهضاً لنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا، وكان يزود ثوار جنوب افريقيا بالمال والسلاح وفي الجانب الآخر كان نظام الفصل العنصري يحظى بدعم وتأييد الولايات المتحدة وأوربا الغربية التي لم تلتزم بالمقاطعة الاقتصادية والدبلوماسية والرياضية لجنوب افريقيا، والتي التزمت بها معظم دول العالم... والاتحاد السوفيتي ومعسكره كانوا يدعمون حركات التحرر الوطني والثوار في القارة الافريقية وكانوا يدعمون العرب في مواجهة اسرائيل، حيث كانوا المصدر الوحيد للسلاح العربي.

نحن الاسلاميين كنا نناصب الشيوعيين وقوى اليسار العداء في السودان، ولكننا عندما ذهبنا لبريطانيا للدراسة، وجدنا انفسنا تلقائياً معهم في معسكر واحد، كان يضم أبناء الدول العربية ودول العالم الثالث «من افريقيا واسيا» وقوى اليسار في بريطانيا «انصار حزب العمال البريطاني وأنصار حزب الأحرار»، وكان هذا التكتل الطلابي يكتسح انتخابات اتحاد الطلاب، وكانت تقام الندوات والمواكب المناصرة للقضية الفلسطينية المناهضة لإسرائيل ولسياسة الفصل العنصري في جنوب افريقيا؛ وكنا نقاطع البنوك والشركات التي تعمل في جنوب افريقيا وأذكر احتفالنا بزيارة السيد بيتر هين «وزير العمل في الحكومة البريطانية الحالية» لجامعة نيوكاسيل، وكان آنذاك رئيساً لشباب حزب الاحرار، وكان مناهضاً شرساً لسياسة الفصل العنصري، ومؤيداً للمناضل السجين نلسون مانديلا ورفاقه؛ ولكن الطموح الشخصي لبيتر هين جعله ينضم لحزب العمال، لأنه يعلم ان لا فرصة لحزب الاحرار في الوصول للسلطة وبالفعل أصبح وزيراً عند فوز حزب العمال في الانتخابات في عهد توني بلير، بل ومن المؤسف انه كان من المؤيدين لغزو العراق مناقضاً بذلك لكل إرثه النضالي السابق لكي يحتفظ بمنصبه الوزاري.

لقد رأي العالم كيف اخذت الولايات المتحدة تتصرف باستهتار بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فأقدمت على غزو العراق من دون تفويض من مجلس الأمن، بل واستهانت وسخرت حتى من الدول الحليفة التي عارضتها في ذلك الغزو مثل فرنسا وألمانيا وأطلق وزير الدفاع الامريكي السابق رونالد رامسفيلد عليها لقب اوروبا القديمة في سخرية واضحة، كما رأينا كيف عاملت امريكا السجناء في أبو غريب وغوانتانامو فاحتجزتهم من دون تقديمهم لمحاكمة عادلة، بل ومارست عليهم ابشع انواع التعذيب.

رابطة عدم الانحياز التي تكونت في سبتمبر 1961 في بلغراد كان من أبرز قادتها جواهر لال نهرو «الهند» وسوكارنو «اندونيسيا» وجمال عبد الناصر «مصر» وكوامي نكروما «غانا» وسيكوتوري «غينيا» وجوزف بروز تيتو «يوغسلافيا» ونمت هذه الرابطة لتضم في عضويتها 110 دول وكان لهذه الرابطة دور مؤثر في المسرح الدولي إذ انها تمارس الحياد الإيجابي، وهذا يعني ان لها رأيا فيما يحدث في العالم؛ فعارضت حرب فيتنام وغزو أفغانستان وكان القطبان امريكا والاتحاد السوفيتي يخطبان ود هذه الرابطة، أما الآن وفي ظل القطب الواحد لم يعد لهذه الرابطة دور، بل لم يعد لها وجود إذ ان سياسة امريكا صارت وكما أعلنها بوش «الابن» في صلف وغرور إن «من ليس معنا فهو ضدنا».

كان الاتحاد السوفيتي يطبق الاشتراكية العلمية وهي «من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته» أي أن ما يفيض عن حاجة الانسان لا يحتفظ به بل يوزع على غيره؛ ورغم تعارض هذا المبدأ مع طبيعة البشر وغريزة حب التملك حيث كان سبباً لانهيار الاتحاد السوفيتي لاحقاً إلا ان الطبقات الفقيرة كانت تنعم بالحد الأدنى من الغذاء والعلاج والتعليم مما اسهم في المد الاشتراكي، الذي اجتاح العالم سواء في اوروبا الغربية أو في بلدان العالم الثالث، فظهرت الأحزاب الاشتراكية التي تبنت النهج الاشتراكي مع تمسكها بالديمقراطية وشهدت بلدان العالم الثالث العديد من الثورات والانقلابات التي تبنت تلك الاطروحات «في مصر وسوريا والعراق والجزائر وغانا والسودان وغيرها»، بل وحتى الاسلاميون وتحت ضغط المد الاشتراكي أخذوا يتحدثون عن الاشتراكية في الاسلام «مصطفي السباعي ـ سوريا» والعدالة الاجتماعية في الاسلام «سيد قطب ـ مصر»؛ وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانحسار المد الاشتراكي استولت الحركة الاسلامية علي الحكم في السودان وانتهجت سياسة اقتصاد السوق في ابشع صورها، بل إنها ألغت ما وجدته سائداً من علاج وتعليم مجاني كما ألغت الدعم على السلع والخدمات الأساسية فتصاعدت الاسعار بصورة جنونية وافتقر السواد الأعظم من السوادنيين.

الولايات المتحدة الامريكية والغرب أصبحوا يناصبون الاسلام العداء فالرئيس بوش تحدث عن الحرب الصليبية، وبابا الفاتيكان هاجم الاسلام وزعم ان الاسلام لم يقدم للحضارة الانسانية إلا العنف والدمار، وهنالك حملات مجحفة في صحف الغرب تهاجم النبي محمد صلي الله عليه وسلم؛ كل هذا لأنهم يعتقدون وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي أن الاسلام مؤهل لتقديم البديل الاصلح والأمثل للعالم، ونحن نقول نعم فهنالك بشريات كثيرة أخبرنا بها رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم، تبشر بذلك قوله صلي الله عليه وسلم «جاء الاسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء» والمسلمون اليوم في أضعف حالاتهم، ولكن الله تعالى قادر على تبديل الحال، بل وعلى استبدال القوم «.. وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم» سورة محمد الآية «38».

* كاتب وأكاديمي سوداني