«أنابوليس».. هل ضاعت ؟!

TT

كنت ممن نظروا الى مبادرة «أنابوليس» على أساس أنها تمثل فرصة جديدة للتوصل إلى تسوية مقبولة للصراع العربي ـ الإسرائيلي تماثل أو تقترب من تلك التي جرت في مدريد في مطلع التسعينيات وكان من بين منتجاتها تحقيق السلام الأردني الإسرائيلي بعد انسحاب إسرائيل من الأراضي الأردنية المحتلة، وعملية أوسلو التي بمقتضاها عادت أول سلطة وطنية فلسطينية إلى الأراضي الفلسطينية من مكانها في تونس البعيدة. ولكن المبادرة الجديدة كانت محددة زمنيا، فهي مرتبطة بالرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش الذي وجد القضية الفلسطينية مهمة بعد سبع سنوات من وجوده في البيت الأبيض؛ وهي كذلك، وكما أعلن مرتبطة بتحقيق هدف محدد وهو إقامة دولة فلسطينية مستقلة وفاعلة قبل نهاية العام الحالي 2008. ولما كانت الانتخابات الأمريكية سوف تجرى في بداية شهر نوفمبر القادم فإن معنى ذلك هو أن عمر تنفيذ المبادرة هو احد عشر شهرا، مضى منها بالفعل الآن ثلاثة شهور، تحتاج الجهود فيها إلى تقييم.

ومن الناحية الشكلية فإن بعضا من الجهد قد بذل بالفعل للتقدم في المجالات الثلاثة التي قررتها مبادرة «أنابوليس» وهي إعادة بناء مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، وعقد مؤتمر للعون الاقتصادي للسلطة، وأخيرا، وهو الأكثر أهمية، المفاوضات الثنائية الخاصة بالوضع النهائي وهي التي تعد صلب العملية التفاوضية كلها. ورغم أن بعضا من التقدم البطيء في عملية إعادة بناء المؤسسات الفلسطينية، وبعيدا عن غزة وما يجري فيها وبها من منظمة حماس، فإن الضفة الغربية تبدو أفضل قليلا من الناحية الاقتصادية والأمنية رغم ضغوط إسرائيل وحماس معا. وكان التقدم أكثر من الناحية الاقتصادية عندما عقد مؤتمر باريس وحصلت السلطة الوطنية الفلسطينية على أكثر مما طلبته، وبقي تحويل إعلانات النوايا إلى واقع على الأرض وذلك ممكن مع وجود وزارة فياض ذات الأداء المتميز في ظل ظروف صعبة.

ولكن لا يبدو أن هناك الكثير أو القليل من التقدم على الجانب الأهم بالنسبة للمفاوضات حول الوضع النهائي الذي هو الغرض من المبادرة من الأصل. ورغم زيارة بوش الأخيرة للمنطقة بهدف إعطاء قوة دفع للعملية، بالإضافة إلى أهداف أخرى، فإنه لا يوجد ما يشير إلى وجود تقدم في أي من الموضوعات. وعلى العكس من ذلك فإن القوى المعارضة للتسوية على الجانبين أخذت زمام المبادرة من أنصار التسوية عندما ظهرت موجة جديدة من الاستيطان في الضفة الغربية والقدس تحديدا كانت كافية لتسميم أجواء المفاوضات حتى عندما تحسنت أوضاع كل من محمود عباس على الجانب الفلسطيني عندما تخلص من الضغوط المباشرة لحماس، وايهود أولمرت قبل وبعد ظهور تقرير فينوغراد. ولو أن الأوضاع الإستراتيجية في الشرق الأوسط يمكن تقييمها من زاوية العلاقة بين قوى التسوية والاعتدال والتنمية والتوافق مع القوى العالمية والنظام الدولي، وبين قوى الثورة والراديكالية والمواجهة مع القوى العالمية والنظام الدولي، فإن هذه الأخيرة نجحت خلال الأسابيع الماضية في وضع الأولى موضع الدفاع على جبهتين: الأولى هي الجبهة اللبنانية عندما أفشلت المبادرة العربية لانتخاب رئيس للدولة ومعه برنامج للتعامل مع باقي القضايا اللبنانية المعلقة من أول اختيار مجلس وزراء جديد وحتى وضع نظام انتخابي آخر. وحدث ذلك رغم موافقة سوريا على المبادرة نظريا، ولكنها سرعان ما وضعت لها تفسيرها الخاص الذي أعاد الجميع في بيروت إلى المربع الأول. ويبدو أن سوريا لم تعد مهتمة كثيرا بنجاح القمة العربية في دمشق، فحضور القادة العرب سوف يعني تصديقا على الموقف السوري أو تنازلا أمامه، وعدم حضورهم سوف يعطي سوريا ساحة لقرارات أقرب لوجهة النظر السورية في مجالات كثيرة. والثانية هي الجبهة الفلسطينية انطلاقا من قطاع غزة عندما تم وضع سكان القطاع في مكان الدروع البشرية حيث تطلق حماس وحلفاؤها الصواريخ فتكون في صفوف المقاومة والممانعة، فإذا ما كانت في مواجهة رد الفعل الإسرائيلي، أو حتى الهجوم الإسرائيلي المباشر، فإنها تكون في موقع الضحية مع سكان القطاع الذين ضحت بهم السلطة الوطنية الفلسطينية والعالم العربي والإسلامي. وهكذا تحرز حماس عددا من النقاط حتى لو لم تكن لها علاقة بعملية تحرير الأرض أو إقامة الدولة، فهذه في العادة تحاسب عليها السلطة الوطنية الفلسطينية، أما حماس فإنها تحاسب فقط على قدرتها على إطلاق الصواريخ والعمليات الاستشهادية بدون علاقة واضحة مع هدف التحرير. ولم يخل الأمر من براعة عندما قامت حماس بعملية اجتياح سيناء عن طريق اندفاع جحافل بشرية وقعت تحت ضغوط هائلة بفعل سياسات حماس بهدف تطويع القرار المصري والسياسة المصرية وخلق حالة من الاعتراف بوجود كيانين فلسطينيين على القوى المختلفة في المنطقة أن تتعامل معهما على قدم المساواة. وكان ذلك هو سبب التعنت «الحمساوي» إزاء المقترحات التي قدمتها مصر لتخفيف الحصار على أهل غزة من خلال تفعيل معبر رفح بالعودة إلى تطبيق الاتفاقيات المعقودة حيث كانت حماس معنية بتدعيم موقعها السياسي أكثر من رفع المعاناة عن أهل غزة.

وربما لا ينبغي لتصرفات حماس أن تكون مثيرة للدهشة، فعلى نهجها صارت تقريبا كل الحركات والنظم الثورية العربية خلال الأعوام الأخيرة سواء في أرديتها القومية أو الإسلامية، ومهما كانت الأثمان فادحة مثل خسارة العراق كله، والشلل في لبنان جميعه، والتقسيم المحتمل في السودان، فإنها استمرت على نهجها مستخدمة القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي لتعزيز سياساتها. وخلال الأسابيع الأخيرة كانت حركة حماس وحزب الله وحركة الإخوان المسلمين في مصر وسوريا تستخدم الصراع مع إسرائيل لنصرة أوضاع لا علاقة لها بالقضية، مثل السيطرة على لبنان أو الحفاظ على الانفصال في فلسطين أو إحراج السلطات كما هو الحال في مصر. وفي مصر فإن حركة الإخوان المسلمين، ومن والاها في الصحافة المصرية، تم شن حملة على كل من دافع عن الأمن المصري أو تثقيب الحدود المصرية بالأنفاق أو اجتياح بواباتها بالدروع البشرية باعتباره مشاركا في «لوبي إسرائيلي» معاد للوطن والأمة. ولكن ما كان مدهشا حقاً كان موقف النظم المعتدلة والحركات المعتدلة لأنها وقفت مكتوفة الأيدي إزاء هذا القدر من الهجوم والمبادأة سواء ما تعلق بتقويض مبادرة «أنابوليس» وتضييع الفرصة على الفلسطينيين، أو حتى بسياسات الإحراج، والضغط الذي لم يعد سياسيا أو معنويا وإنما انقلب كما حدث في الحالة المصرية إلى الضغط المادي والمباشر، بغض النظر عن النتائج. وبالتأكيد فإن ذلك راجع في جزء منه إلى السياسات العدوانية الإسرائيلية، والعجز الإسرائيلي عن القيام بمبادرات شجاعة لحل القضية الفلسطينية، ولكنه يرجع في جزء آخر إلى أن «أجندة» هذه النظم مزدحمة بمتطلبات التنمية والتعامل مع مشكلاتها ومعضلاتها التي تتولد في ساعات النمو والانكماش معا. ولكن ما يغفله هؤلاء أن الصمت أو التقاعس لا يؤدي إلى المزيد من أشكال الاختبار الراديكالي فحسب وإنما أيضا لوضع العصا في عجلة التنمية بخلق الانطباع بالعجز وعدم القدرة على ضبط الفوضى. ولم يكن ما جرى في سيناء بعيدا عن خلق هذا الانطباع السلبي في مواجهة السياحة التي هي أحد أركان الاقتصاد المصري، أو في مواجهة الاستثمارات الأجنبية التي هي أهم منجزات الإصلاح الاقتصادي المصري الحالي. ويبدو أن عام 2008 سوف يكون عاما مهما في حياة المنطقة؟!.