«أنصار المهدي»: هزيمة العقل العراقي!

TT

شهدت محافظتا البصرة والناصرية، في عمق الجنوب العراقي، معركة حامية الوطيس بين «أنصار الإمام المهدي» ـ زعيمهم المهندس المدني أحمد الحسن اليماني (أحمد إسماعيل كاطع) ـ والقوات الحكومية (18 يناير 2008)، عشية مقتل الإمام الحسين. وقبلها بعام شهد دائر النجف معركة أشد وطيساً مع «جند السماء» (28 يناير 2007)، عشية زيارة الأربعين، كان زعيمهم فناناً يدعى ضياء عبد الزهرة الكرعاوي، الملقب بقاضي السماء، وله كتاب بهذا الاسم.

الحركتان المذكورتان، وجيش المهدي، وما نُسب للسيد محمود الصَّرْخي تجمعهم فكرة قرب خروج المهدي المنتظر! ومحاولة شرعنة التحرك المسلح، أو الدعوي السياسي، بروايات الغياب والظهور، التي أكثر منها صاحب كتاب «بحار الأنوار» (110 أجزاء) محمد باقر المجلسي (ت نحو 1699)، وخصها بجزأين كاملين، منها ما جعل الظهور قيد الساعة، وفي كل زمان. ناهيك من الأحاديث التي وردت في الكتب الأخرى.

هذا، ويجد المتصفح لتاريخ العراق العباسي مئات الحركات والانتفاضات على غرار تلك الجماعات، يتزعمها شخص يدعي المهدوية، أو نيابة المهدي، بشعار جذاب: ملء الأرض عدلاً وقِسطاً، وسرعان ما تزحف عليه الجيوش ويُؤتى برأسه! لبست الفكرة، من قبل، ثورة الزنج (20 ـ 270) وتحركت بالنسب العلوي، وبالبصرة نفسها، وكم ثار القرامطة بها (268هـ وما بعدها)، وسواهما العديد! وخلاف ذلك، نجد الفكرة واقعية لدى شيخ الطائفة الطوسي (ت 460هـ): «لا علة تمنع من ظهوره إلا خوفه على نفسه من القتل»(كتاب الغيبة)! وكان صادقاً آخر السفراء (للمهدي أربعة سفراء) عندما أعلن الغيبة الكبرى، بانقطاع الإمام الأبدي عنه (329هـ) لوفاته مثلاً! وما كان للقوى الدينية الحالية، وهي الجاهدة في تكريس الخيالات، أن تتحدث عن انحراف «أنصار الإمام المهدي»، أو (موبقات) «جند السماء» لو كانت في المعارضة، بل لجعلتهما ثورة ضد الظلم، وعملت جنائز رمزية لقتلاهما!

تبقى العقيدة شيئا والواقع شيئا آخر، لكن هناك مَنْ يجعل وجود المهدي عقيدة وواقعاً في آن واحد، لذا قرر «جند الإمام»، وهو تيار من حزب الدعوة، اقتصار نشاطهم المعارض السابق، ومنهم أطباء ومهندسون، على تمهيد الأرض لظهور الإمام، وهم أنفسهم الآن في البرلمان العراقي يستهزئون من تسمية «جند السماء»، أو فكرة المهديين الاثني عشر من ظهر المهدي! ولا ندري، ما الفرق بين الدعوتين في خذلان العقل! وآخرون أسسوا جيشاً وأوهموا الناس أنه جيش الإمام، وهو الذي يقرر حله!

فيما أنبرى حاصل على الدكتوراه في علم الأحياء تأكيد حياة المهدي، بعد غياب أكثر من ألف عام، عبر البرهنة على قدرة الخلية من البقاء حيةً طوال مئات السنين. أتذكر رئيس تحرير مجلة إسلامية أطلعني على مادة لهذا (الدكتور) طالباً رأيي فيها! وكان الرأي: «أن المهدي عقيدة لا تدخل المختبر! إضافة إلى ما يوحي به المقال من استخفاف بالعقل»! وأخيراً عزفت المجلة عن نشرها. ولا أعلم ما إذا كان صاحبنا الدكتور بالأحياء يرأس الآن مركزاً علمياً من مراكز العراق أم لا ! نتفهم جيداً لماذا يسخر المحقق الإيراني من استفسار الأسير العراقي عن مدى أسره، بالقول: «حتى زهور (ظهور) المهدي»! ذلك للهبوط به إلى أدنى اليأس، بينما مؤيدو الثورة الإسلامية يهتفون في الطرقات: «مهدي بيا»، يا مهدي أخرج! وتجد مرشد الثورة يجيب على الهتاف بمواءمة، ليس أقل عجباً من الهتاف ومن مقالة قاضي السماء: «الثورة خطوة كبرى في طريق ظهور المهدي»!

وآخر الصرعات، سمعنا أن أحمد اليماني ادعى أنه ابن الإمام المنتظر، ورد على هذا الادعاء مسؤولون ورجال دين، ورموه بالشعوذة، لكنهم أنفسهم وظفوا الروايات التي اعتمدها اليماني نفسه، بل غاصوا في أوهام شبيهة! ذلك بعد تصادم المصالح، مثلما تصادمت من قبل، عندما كثر الجدل حول ادعاء أبي الطيب المتنبي (ت 354هـ) بالنسب إلى الإمام المنتظر (الملاح، المتنبي يسترد أباه). وكان لأبي الطيب أكثر من دليل مؤيد لادعائه، ليس لليماني منها واحدة سوى محاكاة الحالة! ولحيوية الحدث سنخصه بمقال قادم!

الأمر يا سادة ! وبالعراق، هو على حد عجز أبي الطيب نفسه: «عجيب في عيون العجائب»: أحزاب سلطة تُعزي وتهنئ المنتظر بمناسبة وفاة وميلاد إمام، أو ضحايا انفجارات وكوارث! بينما تحسب الخروج عليها باسمه وبالمفاهيم نفسها، لكثرة فساد وانحطاط عقل، انحرافاً! ولأبي الطيب نفسه، وكأنه ما زال يجوب الآفاق بحثاً عن أبيه: «إلى كم ذا التخلف والتواني.. وكم هذا التمادي في التمادي»، من قوى وجدت في تلك المقالات أدوات هيمنة على شعب هزمه التخلف والجهل شر هزيمة!