مصر و«حماس»: وراء الأزمة ما وراءها

TT

ليست المرة الأولى في تاريخ العلاقة المصرية ـ الفلسطينية التي يكون التوتر فيها سيد الموقف، لكن لا تلبث مشاعر الأخوَّة أن تتغلب على الغضب العادي أحياناً والساطع أحياناً اخرى ويُستعاد الود الذي أفقده الجانبان حيويته بين الشعبين. واستناداً الى قول الشاعر «اذا احتربت يوماً فسالت دماؤها.. تذكرت القُربى...» فإن الأزمة بين مصر والفلسطينيين بقيت دائماً تحت خط الاقتتال الذي يسيل الدماء، لكنها دائماً فوق خط العراك اللفظي الذي يسيل بدل الدم مفردات من نوع قول الرئيس ياسر عرفات عن الرئيس جمال عبد الناصر إن هذا الأخير بقبوله مبادرة روجرز قد تعب من النضال وبات عليه أن يستريح، ثم قوله وقول آخرين من «منظِّري النضال الفلسطيني» عن الرئيس أنور السادات حول زيارته المباغتة لإسرائيل ثم إبرامه التسوية معها برعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر، ما ليس جائزاً قوله على نحو ما حدث. وفي المرتين تناسى الفلسطينيون أفضال مصر عليهم، مع ملاحظة أن «حركة فتح» الستينات والسبعينات كانت غير «فتح» الراهنة التي تقف الى يمين مصر وليس في مواجهتها على نحو وقوف «فتح» ياسر عرفات لبضع سنوات. وفي المرتين لم يتحمل الفلسطينيون «العقاب المصري» الذي تمثَّل في الدرجة الأولى بوقف بث «ركن فلسطين» من الإذاعات المصرية فضلاً عن مقالات في الصحف أوجبتها سياسة «كما تهاجمني يا شقيقي أهاجمك».

جديد الأزمة المصرية ـ الفلسطينية أن «حركة حماس» تجاوزت بكثير الحدود التي لا يحبذها الحكم المصري. فلم تقتصر المسألة على اقتحام واقع بالغ الحساسية من شأنه إحراج الحكم المصري داخلياً ودولياً وإسرائيلياً، وإنما رأت «حماس» أنها في الحد الأقصى توظف الموقف المصري لمصلحة إخراج مصر عن دور الوسيط الى دور المتفهم لما فعلته عندما انفصلت عن السلطة الشرعية، معتمدة في ذلك على أن لها داخل المجتمع المصري «الإخوان» الذين يناصبون الحكومة المصرية ما هو أكثر من المشاكسة وأقل من العداء. وتدارُكاً من الحكومة لما هو أسوأ، جاء التحذير من مصر الدبلوماسية وقول وزير الخارجية أحمد أبو الغيط يوم الخميس الماضي (7 ـ 2 ـ 2008) في تصريحات للتلفزيون المصري حول احتمال معاودة اقتحام معبر رفح الى داخل الأراضي المصرية «إن من سيكسر خط الحدود المصرية ستُكسر قدمه»، مضيفاً القول «إن حماس قررت عقب سيطرتها على قطاع غزة الاشتباك مع اسرائيل، لكن هذا الاشتباك يبدو كاريكاتورياً ومضحكاً، لأن الاشتباك مع خصم في معركة يعني أن تُلحق به ضرراً، لكن لا تشتبك لكي تتلقى أنت الأضرار. هم اليوم يطلقون الصواريخ، فإما أن تعود مرة أخرى لتقتل أبناء فلسطين أو تُفقد في الرمال داخل إسرائيل فتعطي الفرصة لضرب الفلسطينيين. كما أن رفض حماس إعادة تشغيل معبر رفح وفق اتفاق المعابر الموقَّع في العام 2005 يعني أنها تعاقب الشعب الفلسطيني لأنه هو المتضرر من إغلاق المعبر: إننا لا نعادي حماس ولكننا ننصح قادتها...».

وكي لا يبدو أن كلام أبو الغيط مجرد تنبيهات ذات طابع دبلوماسي، فإن وزير الدفاع المصري المشير حسين طنطاوي عزز التنبيهات بكلام المسؤول العسكري الثاني في مصر (بعد المسؤول الأول الذي هو الرئيس مبارك) حيث قال وفي اليوم نفسه «إن الدفاع عن الوطن وحماية أمنه القومي مهمة مقدسة. ولن نسمح لأحد أن يقترب منه أو يحاول اختراقه، وهي مهمة تتطلب الإعداد والاستعداد وبناء القوة القادرة على مواجهة التحديات...».

وقد يبدو كلام المشير طنطاوي لا يختص بالأزمة مع «حماس» وأنه تعبير عن موقف عام يستهدف أي طرف يعكر صفو الأمن المصري، لكن تزامُن الكلام مع تصريحات وزير الخارجية أبو الغيط الموجَّه الى «حماس» دون غيرها يجعلنا نفترض أن الحكومة المصرية تقول ما معناه أن وراء اقتحام المعبَر أصلاً ما هو أخطر بكثير من مجرد انفجار ناشئ عن حصار وصل الى حد التجويع. وكما هو المتفق عليه فإن من يجوع لا بد يركب الخطر ويخرج على المحظور الذي هو المعبر مع مصر مقتحماً أسواره. أما ما هو الأخطر في تصوُّر الحكومة المصرية فإنه تحويل الاقتحام الى أمر واقع ما دامت مصر تحمَّلته في المرة الأولى فلا بد من أن تقر بضرورة الإبقاء عليه مفتوحاً وبعهدة «حماس» لأن هذه الأخيرة باسطة النفوذ شبه الكامل على قطاع غزة وما دام العابرون المقتحمون هم «حماسيين» في معظمهم. وعندما تُسلِّم الحكومة المصرية بأحقية «حماس» في الإشراف على المعبر فإنها بذلك تكون اعترفت بالحالة الجديدة في غزة وهو ما لا يمكن حصوله لأن تقاسُم الموقف المصري بين «السلطة الوطنية» و«دولة حماس الغزَّاوية» على نحو ما هو حاصل الى حد ما من جانب الحكم السوري غير ممكن، فضلاً عن أن تسليم مصر بأحقية إشراف «حماس» على معبر رفح يعني تنشيط قنوات الاتصال بين «حماس» وحركة «الإخوان المسلمين»، كما يعني من جانب آخر مرابطة إيران على الحدود مع مصر، وذلك لما للعلاقة الإيرانية ـ «الحماسية» من تأثير على نسيج المجتمع المصري المنضوي تحت راية «الإخوان». وإلى ذلك أن الأمر سيتجاوز الشكل الإنساني الى ما هو أخطر بحيث يصبح معبر رفح هو معبر وصول أسلحة نوعية الى «حماس» ثم تصبح الأرض المصرية في سيناء هدفاً لغارات جوية إسرائيلية لضرب محاولات تهريب أسلحة. وعلى نحو ما حدث وربما يتكرر، في لبنان. وعندما تقصف طائرات إسرائيلية أهدافاً على أرض مصرية فهذا يعني ان معاهدة «كامب ديفيد» تعرضت، سواء بنصوصها المعلنة والملاحق الأمنية غير المعلنة، إلى اختراق. وهذا التعرُّض يعني عودة مصر الى الصراع وهو ما لا تريده الحكومة المصرية أو انه من غير المرحب به شعبياً.

نعود الى ما بدأناه لنقول إن لكل رئيس مصري أزمته مع الفلسطينيين، مع الفارق أن أزمة الرئيس عبد الناصر معهم كانت في زمن لم تغادر مصر استراتيجية الحرب الى مشروع السلام، وان أزمة الرئيس أنور السادات كانت في خضم لحظة تاريخية وذروة مرحلة انتقالية الى السلام والتطبيع. وفي المرتين كانت الأزمة مع «فتح» الأكثر شأناً وقوة على الساحة الفلسطينية. أما الذي نعيشه الآن فهو أن أزمة الرئيس حسني مبارك هي مع «حماس» بينما «فتح» الى جانبه.

وهي أزمة مفتوحة لأن «حماس» أرادتها كذلك من لحظة اقتحام المعبر. وكانت لحظة من الصعب على النفس المصرية وعلى وجدان الرئيس مبارك عدم التعامل معها بغير التساهل. ولكن الذي بدأت «حماس» تطلبه من مصر جعل الحذر سيد الموقف وجعل أهل الحكم المصري وباللسانين الدبلوماسي والعسكري ينصحون «حماس» بالابتعاد عن المساس بقواعد اللعبة لأن تغيير القواعد وفق المفهوم الإيراني الحاضر في أسلوب عمل «حماس» يعني إشعال البيت العربي ناراً وبذلك يسلم البيت الإيراني من أي أذى.