عقدة التاريخ وصدفة الجغرافيا

TT

بعيدا عن التفاصيل الصغيرة لأزمة «وزير من فوق ووزير من تحت» ـ كما طاب يوما للأمين العام للجامعة العربية، عمرو موسى، توصيف الأزمة اللبنانية ـ وخلافا لما يبدو وكأنه صراع داخلي على السلطة في لبنان لا يخلو من أبعاد مذهبية.. يصعب فصل أزمة لبنان الراهنة عن خلفية تاريخية تعود، في جذورها القريبة، الى اتفاقية سايكس ـ بيكو، وتحديدا الى ما خلّفه مبضع سايكس ـ بيكو من بتر وتشويه في كيان ما كان يوما يعرف بحلم «سورية الكبرى».

ليست مجرد صدفة أن يكون النهج القومي شعار كل الأنظمة المتعاقبة على الحكم في دمشق منذ استقلال ما تبقى من الكيان السوري عن الانتداب الفرنسي، فبتر كيليكيا وديار بكر ولواء الاسكندرون والاقضية الاربعة «اللبنانية» عن سورية الكبرى تحوّل الى عقدة دمشق التاريخية وإلى خسارة جغرافية حاولت تعويضها، منذ الخمسينات، بمشروع قومي رديف أبعد أفقا. وفي هذا السياق بالذات كانت الجمهورية العربية المتحدة .

في إطار هذه الخلفية التاريخية ـ الجغرافية يندرج أسلوب التعامل السوري «الفوقي» مع عهد الاستقلال الثاني في لبنان، وهو اسلوب يوحي بأن اللبنانيين وحدهم، دون سائر أهالي «بلاد الشام»، باتوا المطالبين بدفع ضريبة اتفاقية سايكس ـ بيكو الباهظة التي جزّأت حلم «سورية الكبرى».

سواء في أسلوب التعاطي المباشر مع حكومة لبنان ـ إن جاز افتراض وجود هذه العلاقة بين الدولتين «الشقيقتين» ـ أم في أسلوب تعامل من تطلق عليهم، تهذيبا، تسمية «حلفاء سورية» في لبنان مع النهج الاستقلالي الذي تجسده قوى «14 آذار».. يبدو ان النظام السوري يعتبر أن «التعويض» الوحيد عن كل الأراضي السليبة من «سورية الكبرى» لم يعد متاحا سوى في لبنان.

هل يعني ذلك أن المعطيات الإقليمية والدولية الراهنة لا تسمح بأكثر من ذلك، أم أن «الأقربين» أولى بالمعروف، خصوصا ان هذه القربى تعززت، معنويا وماديا، تحت المظلة الايرانية الى حد بات «أبغض الحلال» مستعصيا عليها؟

مؤسف أن هذا التركيز على عودة «الهيمنة» السورية على لبنان يتنافى مع تصرف النظام البعثي في دمشق حيال السلخ الأكثر مأسوية لأرض سورية عن الوطن الأم، أي سلخ لواء الاسكندرون (وانطاكية) وضمه الى تركيا بقرار من سلطة الانتداب الفرنسي عام 1939.

منذ ذلك الوقت لم تغفل الحكومات السورية المتعاقبة عن المطالبة باستعادة اللواء السليب.. لغاية العام 1998 حين اقتضت مصلحة الحفاظ على النظام البعثي في دمشق تهدئة تركيا الناقمة على دعمه لحزب العمال الكردستاني الى حد التلويح بغزو الأراضي السورية .

آنذاك لم تقتصر التهدئة ـ التي تم التوصل إليها في اتفاق أضنة ـ على طرد زعيم الحزب، عبد الله أوجالان، من الاراضي السورية بل أيضا على تخلي دمشق، بهدوء، عن المطالبة بلواء الاسكندرون. وهكذا، بعد ان كانت الخرائط السورية الرسمية تكتفي بوضع نقاط (غير حدودية) حول اللواء أصدرت دمشق خارطة جديدة لسورية تستثني لواء الاسكندرون، نشرتها ـ بهدوء أيضا ـ صحف رسمية وأصبحت «موثقة» على الطبعة الجديدة للورقة النقدية السورية من فئة ألف ليرة، وأخيرا مدرجة على الصفحة الرئيسية لموقع إدارة الشؤون المدنية على الإنترنت.

ولأن تصرفا سوريا كهذا لا يغفل على أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، بدأ العديد من السياسيين الإسرائيليين في الاستشهاد به لدى تطرقهم الى مستقبل الجولان السوري المحتل، مشيرين الى إمكانية تخلي النظام السوري عن مطالبته باستعادة الهضبة المحتلة في حال تعرضه لضغوط او لصفقات.

يبقى إذن المجال الحيوي الوحيد المتاح «لتعويض» خسائر الكيان السوري الجغرافية ـ بـ«أنشلوس (ضم)» سياسي على الاقل ـ في لبنان.. ولأكثر من سبب، فلبنان، خلافا لتركيا أو حتى اسرائيل، دولة عربية يسهل «اختراقها» بواسطة طابور داخلي خامس، ودولة مستضعفة يمكن التهويل عليها بأكثر من اسلوب تقليدي أو غير تقليدي. لذلك يجوز القول لمن يأملون بانتهاء أزمة لبنان مع انتخاب رئيس جديد للبلاد: قدرُ لبنان أن يبقى، في نظر دمشق، الأرض السليبة الممكن استعادتها.. إلى أن يقتنع طابوره الخامس بأن من غير العملي أن يظل «العاشق الوحيد» في المنطقة لتلقي تبعات «سايكس ـ بيكو» على كتفيه.