الأسقف المحترم وليامز.. وهذه قيم مسيحية في الشريعة الإسلامية

TT

صدق الله: «ليسوا سواء».. من هم هؤلاء الناس (غير المتساوين)؟.. هم أهل الكتاب.. وبهذا المعنى: يأتلف هذا المقال ـ في جانب من جوانبه ـ مع مقال الأسبوع المنصرم الذي كان نقدا لمواقف بعض المرشحين للرئاسة الأمريكية ـ وهم قساوسة في الأصل ـ. فقد اتخذ هؤلاء الاسلام غرضا وهدفا لهجومهم وعداواتهم الشديدة في حملاتهم الانتخابية بهدف كسب أصوات ناخبين.. ان هؤلاء (لا يستوون) مع كبير اساقفة كانتربري: راون وليامز الذي جهر ـ بضمير حي وسماحة نضرة ـ بأن من الضروري أو لا ضير في أن تتضمن قوانين الأحوال الشخصية البريطانية قسطا من الشريعة الاسلامية: يرعى حقوق المسلمين البريطانيين في هذا المجال وقد علل الاسقف وليامز هذا المطلب بأن المؤمنين بالله يستمدون تشريعهم ذا الطبيعة الايمانية: من ربهم وخالقهم، لا من مصادر أخرى لا تحفل بقضايا الإيمان الديني.. ويلحظ ـ هنا ـ ان ذلك القس الأمريكي المرشح للرئاسة الأمريكية والذي بدت البغضاء للاسلام من فمه: يلتقي مع الأسقف راون وليامز في (المذهب البروتستانتي المسيحي)، وعلى الرغم من هذا الالتقاء في المذهب فهم ليسوا سواء في الفهم والضمير والعدالة والتسامح.

وبالنسبة للأسقف الفاضل راون وليامز، فقد كنا حاورناه ـ في أواخر ديسمبر الماضي على صفحة الرأي في هذه الصحيفة ـ عندما دعا المسلمين الى التعرف على (الثقافة المسيحية).. ومن مفاهيم ذلك الحوار: «ان الثقافة المسيحية اصل معرفي واعتقادي عند المسلمين يتلقونه من القرآن والسنة». فهذان المصدران عرّفا المسلمين بالمسيح عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ وبإنجيله وأمه وحوارييه تعريفا موسعا ويقينيا: مشروطا بان المسلم لا يكون مؤمنا إلا إذا آمن بذلك كله: بالمسيح نبيا رسولا، وبانجيله كتابا منزلا من عند الله، وبطهارة أمه الصديقة مريم بنت عمران.. وخُتم الحوار يومها بهذه العبارة: «بقي ان يتعرف المسيحيون على هذه الثقافة (المسيحية) التي انتظمها الاسلام. والمعوّل في ذلك على كبير أساقفة كانتربري وأمثاله من عقلاء المسيحيين».

أما القضية الكبرى الجديدة التي ينصب عليها هذا المقال فهي مطالبة كبير أساقفة كانتربري ورئيس الكنيسة الانجيلية العالمية بمراعاة حقوق مسلمي بريطانيا التشريعية في مجال الأحوال الشخصية في القوانين البريطانية.

والحق ان راون وليامز حين طالب بذلك: لم يجدف، ولم يأت ببدعة.

إنما بـ (شرعة من شرائع المسيح طالب)!!!

نعم.. فالحقيقة المعرفية الأساسية التي ينبغي ان تستقر في عقول الناس وقلوبهم: مسلمين ومسيحيين هي: ان شريعة الاسلام احتوت (منظومة واسعة من القيم المسيحية التي تنزلت في الانجيل الذي نزل على المسيح عيسى ابن مريم. والتي وهتف هذا النبي الجليل بها وبشر) وهذه قضية كبيرة، قد يذهل منها الكثيرون ـ هنا وهناك ـ لذا تعين ايراد البراهين الموفورة التي ترفع المعرفة بها إلى مرتبة الإيمان واليقين.

وهذه هي البراهين:

1 ـ برهان ان نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ـ وأمته من بعده بالطبع ـ: مأمور ب ـ (الاقتداء) بالانبياء والمرسلين الذين سبق موكبهم بعثته على هذه الارض. ففي سورة الانعام سياق للنبوات انتظم 18 نبيا ورسولا هم: ابراهيم واسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وايوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى والياس واسماعيل واليسع ويونس ولوط.. وفي تمام السياق جاء الامر بالاقتداء بهم: «أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده».. ومن هؤلاء ـ بداهة ـ رسول من أولي العزم من الرسل وهو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام الذي أمر نبينا بالاقتداء به.. فشريعة الانجيل ـ أي شريعة المسيح ـ: ليست غريبة على شريعة الاسلام، ولا منبوذة من المسلمين، بل هي شريعة محتفى ومقتدى بها في اصول الديانة، وحقوق الله، وكرامة الانسان، ومكارم الاخلاق.

2 ـ برهان (الشرع المشترك)، وهو برهان يمكن أن يفهم بأنه (تفصيل) للبرهان السابق، أو تعزيز واشباع له. ونص البرهان هو ـ في سورة الشورى ـ «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه».. وفي مجال التفصيل ـ بعد الاجمال ـ يفد هذا السؤال: بم وصى الله سبحانه: المسيح عيسى بن مريم؟.. وصاه بالتوحيد والصلاة والزكاة والصيام والتقرب الى الله بصالح الاعمال، وبالصدق والاخلاص والوفاء واداء الامانة وصلة الرحم وتحريم الكفر والالحاد والقتل والزنا واذية الناس والاعتداء على الحيوان.. وهذه الوصايا الالهية للمسيح مودعة كلها في الشريعة الاسلامية (كما سنطالع من بعد).

3 ـ برهان (تأصيل القيم المسيحية وبسطها).. فقد قال سيدنا المسيح صلى الله عليه وسلم: «لا تراء الناس بفعل الخير».. وقال: «أحسن الى من أساء إليك».

ولقد استفاض القرآن في تأصيل هذه القيم وبسطها.. ومن ذلك.

أولا: تأصيل وتفصيل قيمة (لا تراء الناس بفعل الخير). ففي القرآن:

أ ـ «فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراؤون. ويمنعون الماعون».

ب ـ «والذين ينفقون اموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر».

ثانيا: تأصيل وتفصيل قيمة (أحسن الى من أساء إليك».

ففي القرآن:

أ ـ «ادفع بالتي هي أحسن السيئة».

ب ـ «ويدرؤون بالحسنة السيئة اولئك لهم عقبى الدار».

ج ـ «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم».

ثالثا: تأصيل وتفصيل قيم وشرائع الهدى والنور التي جاء بها الانجيل: «وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة واتيناه الانجيل فيه هدى ونور». نقرأ في القرآن عن هذا التأصيل والتفصيل لشرائع الهدى التي جاء بها المسيح عليه السلام:

أ ـ «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين».

ب ـ «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان».

جـ ـ «ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون».

ونقرأ في القرآن عن هذا التأصيل والتفصيل لشرائع النور التي جاء بها المسيح عليه السلام:

أ ـ «قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين».

ب ـ «الر. كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد».

جـ ـ «ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا».

4 ـ برهان (الاتمام والتكميل والتجميل). فالنبي الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لم يأت لينقض الحق والعدل وأحاسن الأخلاق التي جاء بها المسيح عيسى ابن مريم والنبيون من قبله. وإنما جاء ليتم ويكمل ويجمل.. والبرهان الساطع القاطع على ذلك قول نبي الاسلام ـ فيما رواه البخاري ـ: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة في زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة.. فأنا اللبنة. وأنا خاتم النبيين».. والتمثيل ببنيان البيت إنما هو لتوضيح المعنى وتجسيده، بيد ان المقاصد من هذا الحديث الصادق الجميل هي (مقاصد معنوية)، إذ المقصود باللبنة: لبنة التشريع.. ولبنة الأخلاق.. ولبنة المبادئ والقيم. ولبنة التأسيس الإيماني والروحي التي تتابعت مواكب الأنبياء وتعاونت على ترسيخه وصيانته وتكميله وتجميله والدعوة إليه.

والحقيقة المستنبطة من ذلك كله هي: ان الشرائع الاسلامية التي ترعى حقوق المسلمين في الأحوال الشخصية ـ في بريطانيا وغيرها ـ هي شرائع تضمنتها شريعة المسيح وانجيله.

أجل.. ولم يكن الأسقف الفاضل راون وليامز ـ وهو يطالب بما طالب به ـ إلا متبعا لهدي الانجيل نفسه الذي سجل القرآن كل ما فيه من حق وعدل وسلام واستقامة ورحمة وتسامح.

من هنا، لم يكن ثمة سبب لردود الفعل الحادة على وليامز الا سبب الهوى والتعصب.. أو سبب فقدان الإخلاص لشرائع المسيح وتعاليمه.. أو سبب الجهل المطبق بحقيقة المسيحية، وحقيقة الاسلام.

ويثوي في تلك الحقيقة الكبرى الجديدة والأساسية: حقيقة أخرى وهي: أن شريعة الاسلام قد كفلت لأهل الكتاب التمتع التام بحقوقهم التشريعية في مجال الأحوال الشخصية في المجتمع أو الدولة المسلمة، وتشمل هذه الأحوال: الزواج والطلاق والمواريث واللباس والأطعمة والأشربة... الخ، فلأهل الكتاب حق لا ينتقص ولا ينقض في ممارسة شرائعهم في هذه الميادين، ولا يجوز ـ قط ـ أن يلزموا أو يكرهوا على غيرها من شرائع لا يؤمنون بها: كالشريعة الاسلامية.. والعمدة والفيصل في ذلك آية «لا إكراه في الدين»، فنفي الاكراه في الدين يتضمن ـ بالبداهة والضرورة ـ: نفي الاكراه في زواج أو طلاق أو طعام أو ميراث.. ولا ريب في أن نفي الاكراه يستحضر ـ موضوعا وزمنا وقانونا ـ حرية التمتع بالتشريعات الخاصة في الأحوال الشخصية أو المدنية لغير المسلمين: وفق ملتهم وشريعتهم.