الأسقف لا يملك أسلحة المبارزات السياسية

TT

اسقف كانتربري، الدكتور روان ويليامز، هو رأس الكنيسة الانجليكية، التي يتبعها ملايين في كل انحاء العالم بما فيها بلدان الشرق الاوسط. مقابلته الاذاعية، ظهر 7 فبراير، حول تقنين محاكم شريعة للمسلمين، أثارت زوبعة عكست سوء فهم الكثير من زملائي في فليت ستريت.

أما الزملاء في الصحافة العربية، ورغم ثقافتهم العالية، فكان سوء فهمهم اكثر عمقا، السبب ان العلاقة بين الدولة والحكومة ومؤسسات العدالة والكنيسة والسلطة الرابعة في بريطانيا تبدو غامضة للأجنبي عنها.

هذه العلاقات بالغة التعقيد ومثقلة بأحداث تاريخية يصعب على المعلقين من امريكا وبقية البلدان، الانجلوسكسونية الثقافة، استيعابها، فما بالك بالصحفيين العرب المتطبعين بالثقافة الفرنسية، اما الجيل الاصغر سنا (الشباب دون الخمسين) فينتمون مهنيا للمدرسة الامريكية اكثر من البريطانية.

التبس الأمر على الصحافة الشعبية (التابلويد) هنا، فخلطت بين فجوة التناقض الفقهي القانوني بين المحامين والكنيسة، وبين قضية الهجرة وقلق الشعب من تهديد ثقافات دخيلة شمولية لنمط حياة يقدس حرية الفرد في الاختيار.

انعكس سوء فهم معلقين عرب في حصر الزوبعة في «كليشيه» الصحافة العربية السائد: «هجمة الغرب الصليبية على الاسلام» او ظاهرة «الإسلاموفوبيا».

بدأ سوء الفهم في تقارير الفضائيات العربية بتعابير مثل «هجوم على رئيس الكنيسة الانجليكية لأنه طالب بإدخال الشريعة الاسلامية في القانون البريطاني» والرجل لم يطالب بذلك؛ كما ان بريطانيا تتميز عن غيرها من الديموقراطيات بغياب قانون او حتى دستور مكتوب.

الممارسات القضائية في بريطانيا أحكام تستند إلى سوابق قضائية، وبراعة المحامين بإقناع المحلفين بجدلهم المنطقي، او بتطابق او تناقض «مواصفات» تحدد ملامح مواقف لا تجمع في كتاب واحد. اللغة العربية تستخدم «قانون» كترجمة لمفهومين مختلفين: Act الصادر عن البرلمان لتوصيف حالات وممارسات عملية، وLaw أي حكم القانون والحالة القانونية بما فيها القضاء.

يلاحظ القارئ العزيز انني اشرت الى مقابلة الدكتور ويليامز الاذاعية كمصدر للزوبعة وليس لمحاضرته التي القاها مساء اليوم نفسه وهي ورقة ادبية فلسفية بالغة التعقيد، لم يقرأها زملاء المهنة إلا بعد ان فجروا الزوبعة (لأسباب التوقيت). وفات كثيراً من الصحفيين العرب قراءتها في إطارين: واحد تاريخي هو العلاقة السياسية المعقدة للكنيسة بالدولة؛ وآخر معاصر هو نشاط الجماعات والمجالس التي تدعي تمثيل مسلمي بريطانيا.

ولذا لم يضعوا زوبعة رد الفعل لمداخلة ويليامز في سياقها التاريخي السيا ـ جتماعي، وليس في سياق السياسة الخارجية لبريطانيا كصراع مع الاسلام. أخطأ ويليامز بمداخلته في نشرة اخبار «العالم في الواحدة ظهرا» ست ساعات قبل القائه المحاضرة، فلم يكن امام استاذ الفلسفة سوى دقائق، لم يفهم منها المستمع سوى ان الكنيسة تقترح نظام «التفرقة القضائية» بمحاكم شرعية لمن لا يعجبه نظام البلاد القضائي السائد لقرون والذي يسري على الجميع بدون تمييز للجنس او العرق او الديانة او غيابها.

وأصبح سوء الفهم هو الخبر، وليس المحاضرة، في طبعات الصحف المسائية، ولم يكن امام المحررين وقت كاف لقراءة وفهم المحاضرة بدقة.

تسابق محررو نشرات الاخبار المسائية للتغطية، وكذا محررو الصحف القومية والمحلية، لتغطية الخبر من زوايا مختلفة ـ ولا وقت لقراءة واستيعاب المحاضرة ـ حيث فضل الصحفيون الاتصال بأكبر عدد ممكن من فلاسفة اللاهوت، وفقهاء القانون والساسة، ومن نصبوا انفسهم زعماء لمسلمي بريطانيا، وهو أمر مقبول من الناحية المهنية التقليدية ـ رغم انه يبدو غير مسؤول لمن يرى للصحافة دورا وطنيا او اجتماعيا.

تلقى موقع «العالم في الواحدة ظهرا» 17 الف رسالة الكترونية في الساعة التالية لبث المقابلة وانهالت عشرات آلاف الرسائل على مواقع الصحف الكبرى، اغلبها معاد لويليامز.

الغريب ان المكتب الصحفي لقصر لامبث (المقر الرسمي لأسقف كانتربري) وقف متفرجا على عاصفة تتجمع غيومها لخمس ساعات بدون التحرك لحصر الأضرار Damage limitation بإعادة صياغة المحاضرة لتجنب اساءة تفسيرها او ترتيب مقابلات تلفزيونية وصحفية فورية.

ويليامز أكاديمي فيلسوف، لكن منصبه كأسقف كانتربري يجعله راعيا روحيا لتوجيه الملايين نحو مكارم الاخلاق والفضيلة والسمو الروحي. في مقابلته الاذاعية اعتبره المستمع سياسيا، لكنه في عالم الواقع يفتقر للاسلحة المستخدمة في مبارزات عالم السياسة اللاخلاقي بمقاييس رجال الدين.

فالكنيسة هنا انفصلت عن الدولة، رغم ان الملكة رأس الاثنتين، الا ان كلتيهما منفصلة عن الحكومة التي يديرها ساسة منتخبون. الكنيسة الانجليكية تاريخيا قدمت البعد المقدس لاستقلال بريطانيا عن الفاتيكان بتحول هنري الثامن عن الكاثوليكية في القرن 16، فترؤس لابس التاج للكنيسة هو تأكيد مقدس لاستقلال الدولة عن الكهنوت البابوي «الاجنبي». ولذا اتحدت احزاب الحكومة والمعارضة (اي النظام السياسي الليبرالي) في مهاجمة اسقف كانتربري الذي يهدد بإعادة لاهوت «اجنبي» للمؤسسة القانونية (بمعنى Law). وشاركتها مؤسسات الدولة الديموقراطية كالقانون (اتحاد محامي النقض Bar Association ؛ ونقابة المحامين Law society) والسلطة الرابعة.

جمعيات الدفاع عن الحرية وحقوق الانسان انتقدت ويليامز، واتهم علمانيون الكنيسة، بمحاولة استعادة نفوذها بدس أنفها في الامور الدنيوية بعد ان حجمت الديموقراطية دورها بعيدا عن القانون، وذلك بمحاولة ويليامز استغلال رغبة الحكومة العمالية في استمالة المسلمين بتساهلها في انتهاكاتهم للقوانين والأعراف بحجة «احترام ثقافتهم الميزة».

الصراع إذن لم يكن بين اسقف يريد تطبيق الشريعة ومجتمع مصاب بالاسلاموفوبيا، كما صورته فضائيات عربية، وإنما بين كنيسة تسعى لتقنين ادارة شؤون الناس الدنيوية حسب لوائحها اللاهوتية في ناحية، وبين المؤسستين الليبرالية والقانونية في ناحية اخرى، خاصة ان سيادة القانون هنا هي حامي الديموقراطية ( فالأنظمة الشمولية تجري انتخابات وراء ظهر القانون). كانت اصوات الليبراليين المسلمين، خاصة البرلمانيين منهم، هي الاعلى في رفضها تدخل اسقف كانتربري في الشؤون القانونية.

أثار المعلقون المسلمون والمسلمات قضية منطقية وهي ان المساواة امام القانون كانت أهم ما جذبهم وآباءهم الى بريطانيا هربا من بلدان لا تعترف ثقافتها بحقوق الفرد وحريته في الاختيار ويلتوي فيها عنق القانون حسب اهواء قبلية او سياسية او مالية او بتسلط رجال الدين.

أما الاكثر دعما لفكرة عزل المسلمين في غيتوهات قضائية (كمحاكم الشريعة ومجالس الفتوى غير المرخص بها قانونيا) بعد ان عزلوا انفسهم بتوجيهات أئمة جهلاء، وبدعم الفضائيات الغوغائية في الغيتوهات الثقافية والاجتماعية، فكانت أقلية تمثلها جماعات ومجالس غير منتخبة نصبت نفسها ممثلة لمسلمي بريطانيا.

فكلما ازدادت عزلة مسلمي بريطانيا، ورفضوا الاندماج، استفردت بهم هذه المجالس والجماعات وتنامى نفوذها بادعاء تمثيلها للمسلمين لتحصل على الدعم السخي، سواء من حكومة تتخبط قراراتها وتفتقر لسياسة مرسومة للتعامل مع المهاجرين، كحكومة غوردون براون العمالية، او الدعم من بلدان اسلامية تنقل صراعاتها ومنافستها لبعضها البعض الى بريطانيا عن طريق المزايدة على تمويل هذه المجالس التي لا تمثل الا نفسها.