تركيا.. ومعركة الحجاب

TT

على الرغم من أن تركيا كانت البلد الإسلامي الأكثر تعرضاً للتحديث والتأثير الأوروبي منذ القرن التاسع عشر، إلا أنها تظل بلداً شرقياً محافظاً عموماً، لذلك فعندما أسمعهم يندبون ويوَلوِلون قائلين: لقد انتهت العلمانية التركية، لا أملك إلا أن أبتسم وأتعجب. فالعلمانية التركية كانت منتهية منذ زمان أيها السادة. لقد ماتت ودفنت وترحمنا عليها، بل إنها لم توجد قط بالمعنى المعروف للكلمة. فما معنى علمانية مفروضة على المجتمع من فوق حتى ولو من قِبل بطل تاريخي يدعى مصطفى كمال أتاتورك؟. العلمانية الحقيقية هي نتيجة اشتغال الذات على ذاتها ومن خلال تطور تدريجي طبيعي مستوعب ومقبول من قِبل أغلبية الشعب. وهذه هي حالة العلمانية الفرنسية أو الأوروبية عموماً. هل يمكن أن نتخيل عودة الأصولية المسيحية أو محاكم التفتيش أو الطائفية والمذهبية وعقلية القرون الوسطى إلى أوروبا الحالية؟، مستحيل. هذه أمور صُفِّيت وحُلَّت من قِبل تطور تاريخي وصراع طويل عريض بين التيار العلماني والتيار المسيحي. وقد جاءت المصارحة قبل المصالحة.

أما العلمانية التركية، فهي هشّة وسطحية أكثر مما نتصور. فقد فرضها أتاتورك عام 1924، أثناء تأسيس الجمهورية التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية دون أن يكون الشعب مهيئاً لها على الإطلاق. لم تسبقها ثورة فلسفية أو علمية ولا حتى إصلاح ديني تدريجي ولا تطور اقتصادي واجتماعي ولا فِكر تنويري إسلامي ولا مَن يحزنون.. إنما أُلصقت هكذا على سطح المجتمع لصقاً، فبدت وكأنها جسم غريب يريد أن ينبذه، وقد نبذه منذ عهد تورغوت أوزال في الثمانينات وليس الآن في عهد أردوغان. فأنت حتى لو كنت بطلاً تاريخياً لا تستطيع أن تلغي تاريخاً بأسره بجرة قلم أو بين عشية وضحاها. وهكذا انتقم الواقع لنفسه وعاد الشعب إلى جذوره العميقة بعد وفاة القائد المؤسس من جديد.

إذ أقول هذا الكلام لا أبغي إطلاقاً التقليل من أهمية التيار التحديثي في تركيا ولا من نضالاته من أجل مجتمع مدني يتساوى فيه الجميع أمام القانون والمؤسسات أياً تكن أصولهم العِرقية أو الدينية أو المذهبية، لكن ينبغي على هذا التيار أن يعلم أن الطريق طويل أمام التوصل إلى مثل هذه الأهداف النبيلة. كان إميل بولا، أحد كبار المتخصصين بالأديان هنا في فرنسا، نشر كتاباً بعنوان: «الحرية والعلمانية: حرب شطري فرنسا ومبدأ الحداثة» (باريس، 1988).

وفيه شرح كيف حصل الصراع في فرنسا بين الشطر العلماني الحديث والشطر الكاثوليكي العريق الراسخ الجذور. وهو صراع شغل مائتي سنة من تاريخ فرنسا قبل أن يتوصل الطرفان إلى تسوية معقولة تحفظ السلم الأهلي عام 1905. والآن، ما الذي يحصل في تركيا أو سواها من بلدان العالم الإسلامي والعربي؟، ألا نشهد نفس الصراع بين التيارين؟. هذا لا يعني بالطبع أن العلمانية التركية المقبلة ستكون نسخة طبق الأصل عن العلمانية الفرنسية، فهذا غير ممكن، وربما غير مستحب، لأن لكل بلد ظروفه وحيثياته، لكنه يعني أنك لا تستطيع أن تشكل وطناً موحداً منسجماً إلا إذا وجدت صيغة مشتركة للتعايش قادرة على تلبية رغبات كل الأطراف دفعة واحدة، وهي عملية شاقة ومرهقة.

ليُفهم كلامي جيداً هنا. إني أحترم الحجاب، وبخاصة إذا كان موضوعاً عن ورع داخلي وإيمان واقتناع. لكن الشيء الذي أخشاه، هو أن يتحول إلى أداة ضغط تستخدمه تيارات الإسلام المسيّس لتحقيق مآرب أخرى: أي للتضييق على الحريات الفردية ولإرهاب الرأي المخالف في نهاية المطاف. أنا لست ضد الفتاة المحجبة في الجامعات التركية، فلها الحق في إكمال دراساتها العليا مثلها في ذلك مثل غيرها، وأنه لأمر مؤسف أن يضطر رئيس الوزراء أردوغان إلى إرسال ابنتيه قبل بضع سنوات إلى الجامعات الأميركية لأن الحجاب هناك غير ممنوع!.. وحتى في الجامعات الفرنسية نجد أن الحجاب مسموح به. فقط هو ممنوع في المدارس، حيث توجد الفتيات الصغيرات، لكن إشارة الصليب ممنوعة أيضا في المدارس الفرنسية، كذلك القلنسوة اليهودية، وليس فقط الحجاب. نعم، يحق للفتاة المحجبة أن تدخل إلى الجامعة، لكن بشرط واحد: هو ألاّ تنظر إلى زميلتها غير المحجبة شزراً، وألا تعتبرها خارجة على الإسلام وقيم الحشمة والعفة والطهارة لأنها ترفض أن تلبس الحجاب.

هناك أمثلة عديدة على الضغط الذي تمارسه المحجبة سياسياً ومن يقفون وراءها، على غير المحجبة. ومعلوم أنه وصل الأمر بالأصولي المتطرف قلب الدين حكمتيار إلى حد أنه أمر أتباعه برش الفتيات غير المحجبات في جامعة كابول بالمواد الكيماوية أو الحامض اللاذع لتشويه وجوههن!. وكثيراً ما نسمع عن مضايقات تتعرض لها غير المحجبات في الحافلات والأماكن العامة من قِبل المتشددين والسيدات المحجبات أيضاً، فهم ينظرون إليهن وكأنهن مومسات أو عاهرات.. هذا لا يجوز. وهنا يتحول الحجاب فعلاً إلى سلاح فعّال في أيدي الحركات الأصولية المتطرفة التي تريد أن تفرض على المجتمع كله أفكارها وتصوراتها. والأمور قد لا تقف عند الحجاب، فبعده ربما طالبوا بتطبيق أحكام وحدود أخرى أشد خطراً.