ماذا كانت رسالة أسقف كانتربري.. الرئيسية؟

TT

الدكتور روان ويليامز، اسقف كانتربري الـ104، يواجه نقداً قاسياً هذه الأيام. ويشتمل النقد على بعض الدعوات الى استقالته بسبب التصريحات التي أدلى بها، الأسبوع الماضي. وقال انه «أمر لا يمكن تجنبه»، وأن النظام القضائي البريطاني سيتعين عليه يوما ما أن يعترف ببعض جوانب الشريعة الاسلامية.

واود في هذه المقالة أولا أن أقارن بين قضيتين؛ الأولى رواها جوناثان ساكس زعيم الجالية اليهودية في المملكة المتحدة. ولدى ساكس كتاب مهم جدا اسمه «البيت الذي شيدناه معاً». والسبب الذي يجعلني اركز على هذا الكتاب يجري توضيحه في سياق هذه المقالة. فقد كتب يقول: «في يناير (كانون الثاني) 2001 عقد أسقف كانتربري حينها اجتماعا بالاسكندرية في مصر لزعماء بارزين مسلمين ويهود ومسيحيين بالشرق الأوسط، ووقعوا اتفاقية سموها إعلان الاسكندرية. وربما كانت هذه الاتفاقية التي تلزمهم بحل النزاع بصورة غير عنفية واحدة من أهم الخطوات نحو السلام في غضون عقود من الزمن. وكانت التغطية في الصحافة الغربية للحدث غير موجودة تقريباً.

والقضية الثانية؛ تتعلق بويليامز وهجوم الصحافة. ويمكن الاطلاع على النص الكامل لمحاضرته وللمقابلة التي أجرتها معه محطة الاذاعة الرابعة في «بي بي سي» وكذلك تصريحاته. وفي هذه المقالة، يمكن أن تدرس محاضرته حتى يكون ممكنا التعرف على رسالته بنظرة واضحة. كما أنني سأركز على العاصفة التي واجهها الدكتور ويليامز.

ـ الدكتور ويليامز ليس اسقفا عاديا مثل سلفه. واذا ما قرأت المقالة التي نشرت في «جيروزاليم بوست» يوم 9 فبراير(شباط) 2008 ستتفق معي على أن الأسقف ويليامز متفرد. وأعتقد أن ويليامز أكبر من وظيفته الرسمية كأسقف كانتربري، وهو شبيه جداً بالبابا شنودة زعيم المسيحيين الأقباط في مصر. فكلاهما فيلسوف ومفكر وشاعر.

وفي عام 1985، اعتقل ويليامز لتوقيعه مذكرة كجزء من احتجاج نظمته لجنة نزع السلاح في لاكنهيث، وهي قاعدة جوية اميركية في سوفولك.

ومرة اخرى في كتيبه الموسوم «كتابة التراب»، وصف رأيه في الحادي عشر من سبتمبر(أيلول). وقد كان يبحر عكس الرياح الشديدة. كان في نيويورك في وقت الأحداث، وعلى بعد ياردات من موقع «الغراون زيرو»، يقدم محاضرة. وقد ألف كتابا صغيرا بعد ذلك، احتوى على آرائه حول الحدث. وفي اشارة الى «القاعدة» زعم أن الارهابيين يمكن أن تكون لديهم أهداف أخلاقية جدية، وأن مهاجمي الحادي عشر من سبتمبر يجب ألا يوصفوا باعتبارهم اشراراً، ذلك ان «الكلام الأجوف حول الأشخاص الأشرار لا يساعد على فهم أي شيء».

ـ والشيء الثالث انه انتقد الحرب على العراق. وكان ضد ما قامت به اميركا وبريطانيا في اكتوبر(تشرين الأول) 2002 في العراق، ووقع نداء بذلك الخصوص. وكان يعتقد أن الحرب ضد أخلاقيات الأمم المتحدة والتعاليم المسيحية. ومرة أخرى في يوم 30 يونيو(حزيران) 2004 ومع أسقف يورك، ونيابة عن 114 من أساقفة كنيسة انجلترا كتب الى توني بلير، معبرا عن عميق قلقه بشأن سياسة الحكومة البريطانية وانتقاده لسلوك قوات التحالف في العراق.

ويمكننا تصوير أخلاق وموقف ويليامز اعتمادا على هذه القضايا. واعتمادا على هذه القضايا لم تكن العاصفة التي واجهته غير متوقعة.

لماذا طالبت الصحافة باستقالته؟ لماذا استخدمت صحيفة «الصن» العنوان التالي: «ويليامز: انتصار للارهاب؟» لماذا صرح سلف ويليامز، الأسقف لورد كيري، بأنه «يشعر بالعار في أن يكون انجليكانيا عندما يرى هذه الأمور». ماذا كانت الرسالة الرئيسية لويليامز؟ وما هو إثمه الذي لا يغتفر والذي أرغمه على مغادرة جنة قصر لامبرت؟ وما هي جذور هذه العاصفة الشديدة تجاهه؟

على سبيل المثال، فان اثنين من أقوى الشخصيات في الكنيسة اتحدا لشن هجوم على اسقف كانتربري بعد تصريحاته حول الشريعة الاسلامية.

وبينما كانت الضغوط تتصاعد ضد الدكتور ويليامز، أكد الكاردينال كورماك ميرفي أوكونور، زعيم كنيسة الروم الكاثوليك في انجلترا وويلز، على أن المهاجرين يجب أن يخضعوا للنظام القضائي البريطاني.

وفي غضون ذلك، ادعى لورد كيري ان أيَّ تبنٍّ للشريعة سيكون «كارثيا» بالنسبة لبريطانيا.

وأضاف «انه (أي الدكتور ويليامز) بالغ في قضية تكييف القواعد القانونية الاسلامية. وان استنتاجه القاضي بان بريطانيا سيتعين عليها في خاتمة المطاف أن تحدد مكانا ما في القانون لجوانب من الشريعة وجهة نظر لا يمكن أن أوافق عليها. ولا يمكن أن تكون هناك استثناءات في قوانين بلدنا الذي صارع من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان».

وكان اسقف كانتربري يخوض المعركة من أجل إنقاذ سلطته بعد أن وصلت الضجة التي اثيرت حول تصريحاته بشأن الشريعة الاسلامية الى أعلى مستويات كنيسة انجلترا.

وبينما كان الدكتور ويليامز يحاول الزعم بأنه جرت اساءة فهم تصريحاته أثار اثنان من الأساقفة ضجة حول المعركة التي يخوضها ويليامز عبر اضافة صوتيهما الى النقد. وهذا يترك أكبر رجل كنيسة في البلاد في مواجهة اختبار حاسم لدعمه في المجمع الكنسي.

ودعا اثنان على الأقل في المجمع الأسقف الى الاستقالة وأرغمته العاصفة على اعادة كتابة خطابه الرئاسي. وبدأت الضجة عندما قدم الدكتور ويليامز محاضرة واجرى مقابلة يوم الخميس الماضي دعا فيها الى الاعتراف باجزاء من الشريعة الاسلامية في المملكة المتحدة.

وحاول تهدئة الموقف عبر نشر صياغة جديدة لما قاله على موقعه على الانترنت، مؤكدا انه «لم يقدم اقتراحات بشأن الشريعة ولم يدع بالتأكيد الى تقديمها باعتبارها نظاما قضائيا موازيا».

ويبدو لي ان هذا ضروري أولا لإدراك المفاهيم الرئيسية لرسالة ويليامز. فرسالته ذات اساس فلسفي وبنية ثقافية وهيكل قضائي.. وأخيرا فانها رسالة انسانية. وأعني انه بدون التركيز على هذه المفاهيم الأربعة سيكون من الصعب استيعاب فكرته.

ترى ما هو الأساس الفلسفي لحديثه؟

أود هنا الإشارة إلى رأي الدكتور جوناثان ساكس الذي أورده في كتابه الأخير، وهو كتاب يحمل عنوانا عميقا ومثيرا للاهتمام. أود أن أقول هنا ان لويليام وساكس موقفا مماثلا. المسيحيون واليهود والمسلمون والبوذيون الذين يعيشون ويعملون في المملكة المتحدة يعتبرونها وطنا لهم. ولكن ما هو تعريفنا للوطن؟ يذكر ساكس هنا ثلاث أفكار مثيرة للاهتمام حول تعريف الوطن.

لنفكر الآن في ثلاثة أمثلة، الأول: مائة شخص غريب يتجولون في الريف بحثا عن مكان للإقامة، وفي نهاية الأمر يصلون إلى بوابة منزل ريفي كبير. يأتي مالك المنزل إلى البوابة ويسأل هؤلاء الأشخاص عن هويتهم، ويسردون عليه قصتهم. يقول لهم مالك المنزل ان لديه منزلا واسعا يضم مئات الغرف الشاغرة ويعرض عليهم الإقامة فيها لأي فترة يرغبون. طلب منهم أيضا ان يعتبروا أنفسهم ضيوفا له. يظل الرجل مضيفا ويظل النزلاء ضيوفه. المنزل منزله هو وليس منزلهم، أي أن المكان يتبع لشخص آخر ولا يتبع لهم. هذا هو المجتمع كمنزل ريفي.

في المثال الثاني، يبحث مائة غريب عن منزل ويجدون أنفسهم وسط مدينة كبيرة، حيث عثروا على فندق واسع ومريح وتتوفر فيه كل الاحتياجات. لدى الزوار أموال كافية لمقابلة مصروفات الفندق، ويحجزون غرفهم ويستقرون.

القواعد سهلة. هؤلاء أحرار في ما يفعلونه، ما داموا هادئين لا يتسببون في إزعاج النزلاء الآخرين. هذه العلاقة مع الفندق قائمة على اتفاق له أجل محدد.

الفندق يعرض على النزلاء الجدد الحرية والمساواة التي لا تتوفر في المثال الأول. الفندق هو المكان الذي يقيم فيه الشخص، إلا ان هناك مشكلة واحدة فقط هي ان الفندق مكان يقيم فيه الشخص ولكن لا يشعر بالانتماء إليه. فالشخص لا يشعر بالولاء تجاه الفندق. هذا هو المجتمع كفندق.

المثال الثالث يتلخص في وصول مائة شخص غريب لمدينة صغيرة، حيث التقوا عمدتها ومسؤوليها والسكان المحليين. يقول لهم العمدة: «أصدقائي، كما ترون ليس هناك منزل ريفي واسع يمكن ان يستوعبكم جميعا، كما ليس هناك فندق، ولكن لدينا ما يمكن ان نقدمه لكم. لدينا قطعة ارض خالية، ولدينا طوب ومواد بناء... صنع شيء بسواعد الجميع يهد جدران الشكوك وسوء الفهم، على الرغم من ان هذا ليس هدف المشروع على الإطلاق. هذا هو المجتمع كمستقر نشيده معاً.

يمكن ان يميز ويليامز ومنتقدوه بين ثلاث مجموعات. اقصد الريف والفندق والمنزل. يعتقد ويليامز انه بوسع كل المسيحيين واليهود والمسلمين.. الخ تشييد وطن معا. وبسبب ذلك يصر على الانسجام. عندما يتحدث عن استحالة قبول قانون واحد لكل شخص، فإن ذلك يعني ان على الكل، بمن في ذلك المسلمون، المشاركة في بناء الوطن.

في بداية حديثه أعلن ويليامز انه لا يريد الحديث حول طبيعة الشريعة: «هذه المحاضرة لن تكون نقاشا مفصلا حول طبيعة الشريعة، وهي أمر ربما لا أكون ملما به تماما. هدفي، كما قلت، هو تناول بعض القضايا العامة حول حقوق المجموعات الدينية داخل الدولة العلمانية وما يترتب على إقامة علاقة عادلة وبناءة بين القوانين الإسلامية والقانون المدني للمملكة المتحدة». يعني ذلك انه لا يريد التركيز على الشريعة، هدفه الأساسي شيء آخر. الصحف التي انتقدت ويليامز لم تستمع إلى ما قاله حول الشريعة الإسلامية.

انتقادات لورد كيري جاءت غريبة، وقرأت في الآونة الأخيرة آخر كتاب لهانس كونغ بعنوان «الاسلام: الماضي والحاضر والمستقبل».

يقول كونغ في هذا الكتاب: «أليس من التحامل القائم على الجمود ان يعترف المسيحيون بآموس وهوسي وجيرمياه وآليجا العنيف كأنبياء، ولا يعترفون بمحمد؟».

على غلاف الكتاب، هناك رأي مهم للورد جورج كيري: «عمل عظيم بواسطة واحد من أعظم علماء اللاهوت المعاصرين».

هل يتفق اللورد كيري مع ما قاله كونغ؟

اعتقد أن ما قاله كونغ أكثر أهمية وعقلانية مقارنة بحديث ويليامز حول الشريعة.

لدى كونغ وويليامز آراء فلسفية وثقافية ويتحدثان عن نبي الإسلام والشريعة على أساس آرائهما.

النقطة المهمة الأخرى هي العلاقة بين الحقائق والقيم. الثنائية الواضحة بين الحقائق والقيم والوصف والارتقاء تشكل مزجا جديدا في الإسلام. الإسلام ليس دينا فقط وإنما ثقافة أيضا. هذه المساهمة توضح نموذجا لمشكلة الحقيقة ـ القيمة في ثقافة دينية قائمة على أساس الهوية أكثر منها على الانفصال. اعتقد ان ويليامز فكر في الثقافة والهوية وانسجام المجتمع أكثر من أي شيء آخر.

عندما نركز الاهتمام على منتقدي ويليامز لا نجد أي إشارة إلى هذه الجوانب. على سبيل المثال نشرت صحيفة «ديلي ميل» في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي صورة لويليامز بملابسه الرسمية ككبير للأساقفة، وكتب: «كيف يقول كبير أساقفة ان قانون الشريعة أمر لا مفر منه؟ الشريعة قانون ديني للإسلام قائم على أساس القرآن وأقوال وأعمال النبي محمد وآراء العلماء. أصبحت في الغرب موازية للعقوبات البربرية مثل قطع الرأس وقطع الأطراف والرجم والجلد..».

من الواضح ان الكاتب لم يقرأ النص الكامل لحديث ويليامز. ففي ذلك الحديث يوضح ويليامز جليا انه اقتبس من طارق رمضان مجموعة من الآراء حول الشريعة.

«لدى القانونيين التقليديين، يعني ذلك ببساطة ان تطبيق الشريعة يجب ان يكون محكوما بما يصدره ممثلو المدارس التقليدية للتفسير. ولكن هناك آراء جيدة كثيرة تعتقد في توسيع دائرة حرية الاجتهاد، الذي يأتي من كبار الفقهاء بدلا من الآراء التقليدية».

يعني ذلك، ان رأي ويليامز يعتبر بداية فقط، وليس نهاية للنقاش.

وقد قال غوته ان الفعل يأتي في البداية! أي ان الكلمة في بعض الأحيان تكون تماماً مثل الفعل. مثال كلمة ويليامز حول الإسلام فيه دعوة لنا لبناء الوطن معاً!