الحكومة العراقية: بين استمرار السكون وممكنات التغيير

TT

كون الحكومة عندنا ماسكة للثروة والقدرة فان كل شيء يدور في فلكها ويبدأ من عندها، فإذا اعتلت تدهورت الامور وان صحت تعافت بالتبعية، ورغم الامل بالتخلص من التسيير المركزي للاقتصاد والانتقال الى اقتصاد السوق وروح المبادرة الا ان ضعف وهامشية هذا النشاط من جهة وكون العراق دولة ريع نفطي والدولة فيه هي الوحيدة المنتجة للثروة من جهة اخرى اسهم باعتمادية المواطنين على الحكومة وليس العكس، كونها من يوزع عوائد الريع بصيغة مداخيل فان ذلك جعلها بالضرورة ليست بحاجة للمواطن بل هو المرتهن لها والمتطلع اليها، حاجتها له فقط عند صندوق الاقتراع وحينها تنطبق عليه مقولة روسو المخوف من الديمقراطية التمثيلية بان المواطن في اليوم الذي يعطي فيه صوته فانه يفقده.

الديمقراطيات تحاول ان تسد هذه الفجوة بان تبقى لصيقة لإرادة ووجهة نظر الناخب والمواطنين من خلال تحوير سياساتها وفقاً لما يبقي ويعزز رصيدها عند جمهورها، أما عندنا فالناخب والمواطن يظل عند القوى السياسية صفراً ما بين انتخابين، فتحرص هذه القوى على التسويات والاسترضاءات فيما بين السياسيين.

لذلك فان هناك بين السياسيين اليوم شبه اجماع على ضرورة التغيير، إذ ان المراوحة تعني المزيد من التدهور او على احسن الفروض ديمومة السكون الذي لم ينتج نجاحا، الا ان التغيير هو من التعقيد بمكان ومرد ذلك انه يدور في حلقتين مفرغتين، كيفية التغيير ومن يقوم به.

الاطراف التي لا تريد ان تلقي بكل اوراقها بالمجاهرة بالعداء للحكومة الحالية لذلك فهي تتحدث عن تغيير للحكومة يستبقي رئيسها، في حين توجه آخر يتحدث عن حكومة تكنوقراط، وثالث عن حكومة بعيدة عن محاصصات الاحزاب، ورابع يقلل من سقوف التغيير ويكتفي بترشيق الحكومة بتقليل عدد وزرائها، وخامس يتواضع لترميم الحكومة بإعادة ملء فراغاتها، فما حظوظ كل ذلك ؟

إن عدم الثقة التي جعلت الاطراف في الجلسات الاخيرة للبرلمان لا تثق بان يتقدم قانون على آخر بالتصويت خوفاًَ من ان المتحمس لقانونه سيحصل على ضالته ويعرقل القوانين الاخرى مما جعلها تتفق وكمخرج على التصويت دفعة واحدة، لذا فان طابع الشكوكية العميقة هذه ستنسحب من باب اولى على رئاسة الوزارة فهل من المعقول ان يثق رئيس الوزراء ويضع رقبته تحت يد هذا البرلمان بحل حكومته وينتظر ان يكلف ثانياً وثم ان يتم المصادقة على تشكيلته وهو الذي عجز ولأشهر عديدة ان يمرر وزراء فرادى ولوزارات لا يختلف اثنان على اهميتها لحاجات المواطن اليومية كالصحة والزراعة والنقل.

أما مقترح حكومة التكنوقراط فهو وهم بعيد التحقق حيث ان تكريس المحاصصة السياسية نزل الى المستويات الادنى حتى الى مستويات لابد لها ان تدار من مهنيين كوكلاء الوزارات والمديرين العامين والسفراء وغيرهم من الكادر الوظيفي المتقدم، اما تقليص الوزارات الى 20 او 22 فباستثناء من انسحب من وزارات الدولة فانه لا يمكن الوصول الى معادلة مرضية تقبل فيها الاطراف انقاص حصصها، وذلك ايضاً ينصرف الى تغيير الطاقم السياسي كله، بل حتى لو تواضعت الآمال واكتفت باستبدال وزراء الفشل فان كون رئيس الوزراء يرتكز على اغلبية قلقة، فهو لم يستطع إقالة وزراء ذوي سجل متدهور لكي لا تخسر الحكومة نصابها او تأييد كتلهم مما يسقطها، لذا يظل الخيار المتاح الوحيد هو الترقيع وبإعادة تسمية وزراء جبهة التوافق المنسحبين.

أما آلية التغيير فالكل يتطلع الى الادارة الامريكية في ان تتدخل في التغيير وطريق ذلك بان توحي الى الكتل وثيقة الصلة بها بسحب الثقة عن الحكومة او تجاهر الادارة برفع الغطاء عن الحكومة وباشهار عدم الرضا او امكانية التعاون معها، وهذا ما لا يلوح في الافق بل على العكس فان الادارة الامريكية ما تنفك تؤكد دعمها للحكومة حيث هي لا تريد ان تجازف بالارتداد عن التحسن الامني الملموس ولا تريد ان تدخل في فراغ تشكيل حكومة جديدة ربما يستمر لأشهر في وقت حالة البلد لا تحتمله .

من الجهة الأخرى، فان الطاقم الحكومي والمحيط برئيس الوزراء يقرأ الوضع الامريكي لمصلحته ويشتري الزمن، ويرى بان لا تغيير قبل تقديم السفير كروكر والقائد بترويس لتقريرهم للكونغرس في بداية ابريل وبعدها سيتم الدخول في زمن ابرام الاتفاقية مع الادارة الامريكية حتى نهاية يونيو وفيها ستكون الادارة بحاجة الى حكومة شريكة لهذه الاتفاقية لا الفراغ، بعد يونيو ستكون الانتخابات الامريكية قد دخلت مرحلة التسخين وان النجاح او على الاقل عدم الفشل في العراق سيكون ضروريا لإنعاش آمال وحظوظ المرشح الجمهوري، حتى نوفمبر موعد الانتخابات وبعدها سيكون الرئيس الحالي في طور حزم أمتعته حتى تسلم الرئيس الجديد في العشرين من يناير العام القادم وعندها سيحتاج لبضعة أشهر لكي يتفاهم مع طاقمه ويلتفت للاوضاع في العراق ويدرس الخيارات عند ذاك سيكون ما يفصلنا عن الانتخابات العراقية في نهاية العام القادم بضعة اشهر وحينها سيكون لا من العملي ولا من الحكمة التدخل بالتغيير بل ستترك الامور لما تأتي به نتائج الانتخابات.

إذن هل ستظل الاوضاع عند حالة السكون والاكتفاء بترقيعات شكلية، الذي اظنه ان القوى الأثقل في الخارطة السياسية لن تظل مكتوفة الايدي، وما هذه المرحلة الا مرحلة ارسال بالونات اختبار على وجل ستتصاعد مع تناقص الآمال بامكانية الاصلاح، وستشدد كلما اقتربت من الاستحقاقات، اذ انها لن تقبل ان تتحمل اوزار مشاركة حسبت عليها وهي ليست اطرافا فاعلة فيها، لهذا ارجح ان يخرج محور يمثل انعكاسا لأقطاب مجلس الرئاسة يتكون من التحالف الكردستاني والمجلس الاسلامي الاعلى والحزب الاسلامي سيندفع اما باتجاه التغيير والا للانكفاء والابتعاد عن الحكومة وتحميلها لوحدها تبعات أدائها حين مواجهة الناخبين.