سابقة وظاهرة وكلتاهما مفجعة

TT

كان جدِّي يقول إن الذئب لم يخرج من الغابة إلا عندما علم أن الراعي خرج من الحظيرة. لم يسبق في تاريخ الدول والأمم والشعوب أن بلدا أرغم على أن يكون من دون راع. لبنان سابقة حزينة. وعندما يسجل التاريخ سابقة ما، من أي نوع، يصبح من الصعب إيقافه في دول أخرى عن ممارسة هذا الكيد في حق الآخرين. ومن شبه المؤكد أننا سوف نرى العدوى تمتد في وقت قريب.

وسوف يظهر بلد آخر لا حكومة له ولا برلمان ولا رئيس. ربما في أفريقيا. ربما في أميركا اللاتينية. ربما إذا ضاعت الأصوات غدا، في فلوريدا، بين جون ماكين وباراك اوباما. لا ندري. لكن السياسة عدوى، أو وباء. مثل الجدري والطاعون والهواء الأصفر. ونضرع إلى الله أن يكون ما يحدث في لبنان مجرد مرض موضعي. وما يحدث في غزة مجرد فشة كبد. وما يجري في العراق مجرد ظاهرة محدودة ما بين النهرين. اللهم لا تبل أحدا بمن بلي بهم لبنان.

صفات الوباء اللئيمة أنه يتجاوز إمكانات العلاج، لذلك تلقح الجماعات بجراثيمه على اعتبار «أن دود الخل منه وفيه». والأكثر لؤماً في الأوبئة أنها تنتقل في الهواء والماء والكلام وليس فقط بالتلامس والمباشرة.

صحيح أن بلوى لبنان الكبرى في سياسييه وفساده الأكبر هم، ولكن هذا ليس حكرا عليهم ولا هو حكر على أحد. وكل سياسي لبناني فاسد له شريك فاسد في مكان ما، من البرازيل إلى نيو ساوث ويلز ـ استراليا.

وكل شيء معروف وممكن الحدوث ويمكن حشوه بكل أنواع التبريرات. لكننا لم نفهم حتى اللحظة لماذا لبنان، من دون جميع الأمم، ممنوع من أن يكون دولة حقيقية في جميع العصور. ومغلق كوطن ومفتوح كباب هجرة. وتعطى فيه الجنسية لمئات الألوف ممن لم يروا منه ترابا أو شجرة، فيما يمنع مغتربوه من العودة إلا بموجب تأشيرة مسبقة. ولماذا الغرباء الوحيدون في لبنان هم اللبنانيون، مقيمين ومغتربين وعلى أهبة الاغتراب.

ثمة ظلم واضح في هذا الحصار الداخلي المضروب حول لبنان لأن الخارج يستغل ضعف الداخل، ويمتطي شهوات اللبنانيين وتناقضاتهم وارتخاءهم الهلامي أمام نداءات جميع البلدان إلا بلدهم.

شعب ينزل إلى الساحات وهو يرفع مائة علم وينتمي إلى ألف حزب ويحكي ألف لغة وليس فيه رجل واحد يدعو إلى المصالحة والوحدة. بلى، هناك من يدعو إلى التوافق. ويعني التوافق على منطق الرعاع وخطاب التقاتل. ومفجع هذا البلد. مفجع لأي لبناني فوق الثلاثين من العمر يسمع ما كان يقوله ويقاتل من أجله وليد جنبلاط بالأمس وماذا يقول ومن يقاتل اليوم. ومفجع لمن يحاول أن يعرف أين هو ميشال عون اليوم وماذا يقول ومن يقاتل. بلد مفجع.