اعترافات كروية

TT

الاعتراف هو سيد الأدلة بكل اللغات وفي كل أنحاء العالم وإليكم اعترافي هذا ما زلت اتابع سلوكيات مشجعي كرة القدم بدهشة وخوف فطري من الغوغائية التي تعتري الجماهير سواء كانت المناسبة سارة ام باعثة على الاسف. الحناجر تنطلق بصرخات بدائية والعيون تشخص والاطراف تتمايل ذات اليمين وذات الشمال والى اعلى والى اسفل. حركة المرور تتوقف ويتقمص كل من تسول له نفسه دور الشيمبانزي فترى المراهقين وقد احتلوا اعلى اعمدة الاضاءة في الشوارع والميادين يقرعون الطبول ويؤلفون الشعارات ويبدلون كلمات الاغاني الشائعة الى اغان لمدح الفريق الفائز واللاعب المتميز.

كل هذا قد يندرج تحت بند الحماسة والتشجيع والفرح بأي انتصار ينتشل الوجدان الجماعي من حالة الانكسار التي تلازمه من جراء الاحداث السياسية. ولو انكم مثلي شاهدتم فرحة الجماهير المصرية بفوز المنتخب القومي بكأس الامم الافريقية لظننتم لوهلة انه فريق قومي نجح مثلا في تحرير القدس. فالجماهير سئمت الهزائم بأنواعها واصبحت مستعدة للفرح بكل انتصار. والدليل على ذلك ان فرح الجماهير المصرية بالفوز كانت له اصداء قوية في كل انحاء الوطن الكبير.

المهم هو انني يوم المباراة لم احاول ان احارب قناعاتي بأن الكرة تلهي الناس عن ما هو اهم. وحين دعتنا قريبة لنا لمشاهدة مسرحية الملك لير في نفس الليلة التي كان من المقدر فيها ان يلعب المنتخب القومي المباراة النهائية ضد الكاميرون لم نتردد في القبول كنوع من رفض الانصياع للحماس الجماعي لمباراة النهائي. قطعنا المسافة الى المسرح في شوارع هادئة على غير العادة لان الناس كانت هجرت الشوارع الى المنازل استعدادا لمشاهدة المباراة على الشاشة الصغيرة. في المسرح كانت بانتظارنا مفاجأة. فقد كانت مضيفتنا في حالة حرج بالغ لأنها فوجئت بأن عرض المسرحية ألغي ليوم واحد بسبب مباراة الكرة. أما انا فاستقبلت المفاجأة باستياء وانتقاد شديدين للمسرح وادارته. ولكن قبلنا بالامر وتأهبنا لرحلة العودة الى البيت غير ان مضيفتنا اصرت على استضافتنا في بيتها بما انها تسكن بالقرب من المسرح. ذهبنا فوجدنا اهل البيت مستقرين امام الشاشة الصغيرة.

باختصار شاهدت المباراة ورغما عني بدأت اعترف لنفسي بأن كرة القدم لعبة تتطلب من محترفيها سرعة فائقة وذكاء في المناورة وصبرا جميلا والتزاما لا يتزحزح بروح الفريق. تدريجيا عرفت اسماء اللاعبين وبدون ان اشعر اعترفت بمهارة عصام الحضري حارس المرمى وعبقرية زيدان في المناورة وسرعة ابو تريكة في اقتناص الفرص. وفي لحظة تسجيل الهدف أدهشت حتى نفسي حين ذابت كل قناعاتي وانتفضت من مقعدي ورفعت عقيرتي بعبارة برافو... والتهبت كفي من التصفيق وسط دهشة من زوجي وكل اقاربي.

اعترف ان الفريق القومي علمني درسا لن انساه وهو ان كل القناعات قابلة للتطور والتعديل. فأنا ما زلت ابغض مظاهر الغوغائية التي تصاحب جماهير الكرة اينما كانوا.

وما زلت اتمنى ان يكون تشجيع القيادات للكرة ونجومها واستعداد المجتمعات والقيادات للانفاق على الكرة توازي استعدادا لرفع مستويات التعليم والصحة وتشجيع التفوق في البحث العلمي مثلا. ومع ذلك علمتني تلك المبارة ان النصر لا يتحقق الا اذا التزمنا بروح الجماعة تحت قيادة موحدة وحكيمة. مثل هذا الالتزام يحقق النصر مهما كانت درجة تفوق الخصم.