الأسلوب هو السيدة أيضا

TT

بعد الجدل حول غناء فيروز في دمشق، ضجة حول ذهاب وديع الصافي للعلاج في سورية. موقفي ليس مهما، لكنه يستحق التدوين. خلاصته: اثنان لا يخضعان لمقاييس الحدود والنزاعات: الفن والطب، باعتبارهما أرقى التعبير عن الطاقة الإنسانية. قبل أن يذهب وديع الصافي ليعالج في دمشق، جاء نائب الرئيس السوري الأستاذ فاروق الشرع إلى بيروت لإجراء أخطر عملية في القلب. ومعظم أطباء الرئيس الراحل حافظ الأسد ونائبه عبد الحليم خدام، كانوا لبنانيين.

وديع الصافي هو الصيغة الذكورية من وجه لبنان الفيروزي. لم يغن أحد بقدر ما غنى لبنان وجباله وكونه قطعة من السماء. لكن وديع الصافي، بعكس فيروز، غنى أيضا لمعظم الدول العربية. من الكويت إلى تونس. وليس من دولة عضو في الجامعة إلا لها، أو لسيدها، أنشودة عند وديع.

«أبو فادي» للأصدقاء. وخلال الحرب أغلقت نوادي بيروت فذهب أبو فادي يغني في مصر. وكان أول ما فعله أنه غنى لمصر ولرئيسها. ولم يلبث أن أعطي الجنسية المصرية التي فاخر بها عاليا وطويلا. وفي تلك المرحلة كانت الجنسية اللبنانية في الحضيض ولم تعد تهم أحدا. وبعض الزملاء الأعزاء الذين كانوا قد حصلوا عليها، راحوا يفعلون ما فعله الزملاء غير الأعزاء، فراحوا يعنفون لبنان وينكرونه وينكرون طبعا اللبنانيين، الذين صاروا لا وطن ولا أرض.

في أي حال، عندما انتهت الحرب عاد وديع إلى بيروت. عاد يغني. ولكنه وجد أن جيلا جديدا من المغنين قد اكتسح المسارح في كل مكان. ولم يعد هناك مكان للأغنية الصافية. وبدل الغناء للجبل والساحل راح الجيل الجديد يقلد أغاني الخليج، بالنص واللهجة واللحن. وشعر وديع الصافي بمرارة شديدة. وحاول العودة ومعه مطرب إسباني شاب مسدول الشعر حتى الكتفين. وأخذ هو يرفع حنجرته الذهبية بمواويل العتابا والميجانا فيما الإسباني المسدول يعزف الغيتار ويغني الفلامنكو. وخسر وديع جمهور الفلامنكو فيما لم يربح الإسباني المسدول جمهور العتابا.

وعندما كنت أرى الأستاذ الصافي بين حين وآخر كان يعبر عن مرارته من الجميع: جمهوره ووطنه وبلده. وزادت المرارة مع تخطيه الثمانين. واقترحت عليه مرة أن يصنع التاريخ الفني بإقامة لقاء غنائي مشترك مع فيروز وصباح. وتحدث بمرارة عن السيدتين. وقال: «حاول أن تقنع فيروز»، لكن فيروز أسلوب آخر في الحياة. وفي الضوء والظل. مرارتها عميقة ولكن دون صوت. وحزنها عميق لكن دون معالم. وموقعها حصن، لا يقترب منه أحد ولا يحاول أحد القفز فوق أسواره. ليس الأسلوب هو الرجل فقط. بل هو السيدة أيضا.