باراك في أنقرة.. لماذا؟

TT

بعد زيارة منتصف نوفمبر الماضي التي قام بها الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز الى أنقرة والتي ردد خلالها أمام البرلمان الذي يهيمن عليه نواب حزب العدالة والتنمية قصيدة الشاعر التركي المعروف جاهد صدقي طرنجي «أريد وطنا»، وصل وزير دفاعه ايهود باراك ليس حتما من اجل ان يشاركه الأتراك فرحته بعيد ميلاده، المناسبة التي كشف عنها نظيره التركي وجدي غونول وهو يقدم التهاني أمام عدسات الكاميرا وعشرات الإعلاميين الذين كانوا يتابعون وقائع الجولة.

ما عرفناه حتما بعد يومين من المحادثات التي أجراها الوزير الإسرائيلي الذي يحمل صفة نائب رئيس الوزراء أيضا، انه لم يقصد أنقرة من اجل تقديم الاعتذار بسبب حادثة اختراق المقاتلات الإسرائيلية للأجواء التركية قبل اشهر بهدف مهاجمة العمق السوري، كما انه لم يحضر ليتسلم شخصيا نسخة عن التقرير الذي أعدته لجنة التحري والاستقصاء التركية حول الاختراقات والتجاوزات والممارسات الاستفزازية التي ترتكبها السلطات الإسرائيلية في باحة المسجد الأقصى، وهو لم يصل الى هنا لمطالبة الأتراك، كما أعلن، بلعب دور الوسيط لإطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين الأسيرين لدى حزب الله أو بالمزيد من الفاعلية التركية على طريق حل النزاع الاسرائيلي ـ السوري أو الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي أو حتى الفلسطيني ـ الفلسطيني بعدما قطعت تل أبيب جميع الطرق على أنقرة وحرمتها من استخدام أية ورقة أو دور بهذا الاتجاه. وهو لم يكن هناك أخيرا لحل مشكلة عدم استلطاف الحراس الشخصيين والمرافقين الإسرائيليين والأتراك لبعضهم البعض في البلدين وهي قضية جاهزة لتتسبب بوقوع أزمة دبلوماسية في اية لحظة بعدما تفجرت مجددا خلال هذه الزيارة.

باراك في أنقرة في محاولات مستميتة:

ـ للإعلان عن أن العلاقات التركية – الإسرائيلية عادت الى شهر العسل التي كانت تعيشه قبل سنوات بعد فتح صفحة جديدة انهت حالات التأزم، ولتأكيد ان مصالح البلدين تلتقي في اكثر من مكان وهي فوق الحسابات الضيقة ولن تكون تحت رحمة الأحزاب السياسية التي تصل الى السلطة في البلدين.

ـ للتأكيد على أن المصالح الأمنية الاقتصادية الثنائية هي فوق سائر الاعتبارات، فهاهي تل أبيب تعلن استعدادها للمضي في سياسة تقديم كافة الخدمات والدعم الأمني واللوجستي عبر عرض خدمات القمر الاصطناعي الاسرائيلي «أفق» وبيع طائرات «حيرون» للتجسس من دون طيار وأجهزة رصد وتنصت بتكنولوجيا متقدمة وصواريخ «ارو ـ 2 » ومروحيات عالية الجودة وتنسيق استخباراتي مباشر في المواجهة المفتوحة مع حزب العمال الكردستاني.

ـ اقتصاديا باراك في تركيا لتجديد استعداد بلاده لتسهيل إقامة منطقة صناعية حرة تكون بديلا عن المنطقة التي دمرتها القوات الإسرائيلية قبل سنوات في الضفة الغربية وللكشف عن جهوزية بلاده للمشاركة في اي مشروع خط مائي تركي إقليمي أو غازي أو نفطي يمر عبر تركيا باتجاه الهند وهو ما بحثه وزير الخارجية التركي باباجان خلال زيارته الأخيرة الى نيودلهي.

ـ لإقناع الأتراك بالتراجع عن الدعم العلني للسياسات الإيرانية والسورية الإقليمية التي تقلق إسرائيل سواء في موضوع التسلح النووي الإيراني أو التحرك من اجل الضغط على دمشق لدفعها الى التراجع عن سياسة دعم حزب الله وحماس.

ـ ولينتزع من القيادات السياسية والعسكرية وعودا جديدة باستمرار التعاون وتبادل الخبرات والاستمرار في المناورات العسكرية السنوية المشتركة والتي تتضمن فتح الأجواء أمام المقاتلات الإسرائيلية.

زيارة باراك لم يصاحبها أي ضجيج أو اعتراض يستحق التوقف عنده كما هي العادة عند زيارة اي مسؤول إسرائيلي رفيع، والإعلام التركي بدوره لم يتعامل بعد مع تفاصيل وأبعاد هذه الزيارة فالداخل التركي منشغل بموضوع الحجاب والتعديلات الدستورية والمواجهات السياسية الحامية بين الحكم والمعارضة، لكن هذا لا يمنعنا من القول إن وجوده في تركيا لن يقوّم بشكل مستقل عن زيارة نائب رئيس الأركان الأميركي، الجنرال جيمس كارتريت الخاطفة، الى أنقرة الذي أمضى هو الآخر بضع ساعات فقط في العاصمة التركية التقى خلالها مجموعة من كبار المسؤولين العسكريين الأتراك وان حكومة أردوغان لن ترد بسهولة سياسة «مد اليد» التي تعرضها تل أبيب وواشنطن معا وبشكل منفصل في أصعب وأوسع حرب تشنها على حزب العمال الكردستاني.

باراك حضر ضمن زيارة أمنية ـ سياسية ليقول إن السلام الإقليمي لن يكون في القريب العاجل رغم ضغوطات وتصريحات الرئيس الأميركي المتفائلة بهذا الخصوص وليدعو الأتراك لمراجعة حساباتهم وسياساتهم على هذا الأساس والتعامل بجدية كاملة مع الخدمات الإسرائيلية المعروضة على كافة المستويات والصعد ولجمع غلة تصريحاته التي أطلقها من أنقرة حول ضرورة عدم ارتكاب أوروبا الخطأ المميت برفض طلب العضوية التركية. لكن المؤكد أن حكومة «العدالة والتنمية» ورغم أولوياتها الأمنية والسياسية الداخلية، لن تقع في الفخ الاسرائيلي بهذه السهولة ولن تتخلى عن خيارات الاعتدال والتوازن في سياستها الإقليمية التي تتبناها وتفرط بكل ما بنته من جسور وقواعد تنسيق واتصال مع العالمين العربي والإسلامي في السنوات الخمس الأخيرة.

* اكاديمي وكاتب تركي