تشاد تعيد «الفرانس أفريك» إلى الحياة

TT

كانت أخباراً مقتضبة تلك التي وصلتنا عن التمرد العسكري في تّشاد، وبقينا لبضعة أيام نشاهد صور الضحايا ومنظر العاصمة المهجورة من سكانها دون أن نعلم عن تطورات الموضوع شيئاً، إلى أن علمنا أن محاولة الإطاحة بنظام الرئيس ديبي قد فشلت. ماذا حصل وكيف استطاع الرئيس ديبي أن يحافظ على كرسيه بهذه السرعة وقد سمعنا أن المعارضة قد وصلت إلى أبواب قصره؟

إذا عرف السبب بطُل العجب... فقد وصلتنا بعدها أخبار مؤكدة أن الجيوش الفرنسية القابعة في تشاد قد شاركت بصفة مباشرة في المعارك عن طريق تموين وتوفير الدعم العسكري للرئيس ديبي. هي طبعاً ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها فرنسا لإنهاء نزاع مسلح في إفريقيا، لكنها الأولى في ولاية سركوزي الذي حسبنا أن التغيير قد يأتي معه خاصة وانه راح يّصرح فور وصوله بان عصر الحماية الفرنسية للأنظمة الفاسدة في أفريقيا قد انتهى، وأن الوقت هو الآن للشراكة الاقتصادية والمعاملة بالندّ، ولكن من يصدق هذا الكلام... !!هل يمكن مسح عقود من التدخل الفرنسي في القارة السمراء بهذه البساطة؟ وقد بات معروفا أن كثيرا من الأنظمة القائمة الآن في أفريقيا قد رسّخت نفسها في الحكم بفضل دعم ومساندة حكّام الإليزيه، ابتداء من الكاميرون التي تدخلت فيها الجيوش الفرنسية سنة 1963 من اجل مساعدة النظام القائم آنذاك على إخماد نار ثورة «البميليكي»، ثم مع نظام الرئيس عمر بونغو الذي لم يكن ليصل إلى ما هو عليه الان من قوة واستقرار لولا مساندة باريس العسكرية والسياسية له طيلة 40 سنة من الحكم في الغابون، حتى أسمته الصحافة الغابونية المعارضة «بيدق الإليزيه»، إلى الكونغو مع الرئيس ساسون نغيسو الذي حمله دعم باريس إلى سدة الحكم سنة 1997، أي منذ أن قرر الإطاحة بنظام الرئيس باسكال ليسوبة الذي عرف بقدر من النزاهة حتى انه كان من الزعماء الأفريقيين القلائل الذين طالبوا بفرض رقابة مشددة على نشاط شركات النفط الكبيرة ومحاسبتها على الضرائب المستحقة على الدول المنتجة وأيضا في تّشاد وفي توغو وآخرها كان في ساحل العاج سنة 2002 لإنقاذ الرئيس غابو من محاولة الإطاحة بنظامه.

مهما يكن فتدخل فرنسا الأخير في تّشاد كان له وضعه الخاص: أولا لحساسية الموقع الجغرافي لهذا البلد الذي يقع قريبا من الحدود السودانية وقرب المتمردين من النظام السوداني، مما جعل فرنسا تتخوف من عواقب نجاح المحاولة الانقلابية على موازين القوى في المنطقة وتفرض قرار التدخل كخطوة حتمية وضرورية، علماً أن موقفها من قضية دارفور مشابه لموقف واشنطن.

التدخل في هذه المرة، ممّيز أيضا لأنه يطرح مشكلة حياد قوات حفظ السلام الأوروبية «اليوفور» المنتظر انتشارها قريبا على الحدود التشادية السودانية من أجل حماية اللاجئين من تشاديين وسودانيين، خاصة إذا علمنا أن أكثر من نصف جنودها هم من الفرنسيين، والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يُضْمنُ حياد هؤلاء في النزاع المسلح الذي تعرفه المنطقة وقد أثبتوا أنهم اختاروا معسكرا معينا حين تدخلوا في الأزمة الأخيرة بتشاد؟

رغم أن كل البوادر تشير إلى أن الحقنة التشادية هي من أعاد الحياة في جسد «الفرانس أفريك» بعد فترة الفتور التي أعقبت وفاة ميتران ثم ذهاب شيراك إلا أني ازعم أن العصر الذهبي للعلاقات المتداخلة بين زعماء الإليزيه ونظرائهم الافارقة والتي كانت تعتمد على حماية ودعم بعض الأنظمة مقابل امتيازات اقتصادية واسعة، هو الآن وراءنا ولن يعود على الأقل بنفس الصورة، فالزعماء الأفارقة المخضرمون الذين يحتفظون بكراسيهم حتى يورثوها لذريتهم من بعدهم، لا تربطهم بنظرائهم الفرنسيين الحاليين نفس العلاقات القوية. كما أن الطبقة السياسية الفرنسية عرفت التجديد في كوادرها وتغير أسلوبها في التعامل مع القارة السمراء وإن كان شيراك قد عُرف بصداقاته الشخصية مع عدة زعماء أفارقة حتى لقب بـ«صديق أفريقيا»، غير ان سركوزي لم يصادق أحدا منهم بل وكانت أول زياراته لأفريقيا متبوعة بردود فعل سلبية، خاصة بسبب موضوع الهجرة.

الزمن غير الزمن أيضا، ففرنسا الآن هي جزء من المجموعة الأوروبية الموحدة ولا يحق لها التحرك والتدخل في أي بقعة من العالم دون استشارة شركائها الآخرين، كما أن الشركات النفطية الفرنسية الكبرى التي ظلّت طويلا عين فرنسا على هذه المستعمرات القديمة ويدها الطولى قد أصبحت بعد فضائح قضية «توتال و ألف» أكثر حرصاً على عدم خلط الأوراق بين السياسة والاستثمار، وأكثر ما أصبح يحتاجه الآن «الشرطي الفرنسي» ليظل مضطلعا بمهامه في أفريقيا هو «الشرعية الدولية» أو الغطاء الدبلوماسي لتدخلاته وهي شروط لا يصعب على الدول الكبيرة انتزاعها.

[email protected]