بيت الطاعة «الحزب اللهي» ينتظر اللبنانيين

TT

ما زال الوقت مبكراً، كما يرى البعض، للتحدث بصراحة عن الصورة الحيّة للانقسام التي رسمها يوم الخميس الماضي «جمهورا» الأزمة السياسية الحادة في لبنان. وأيضاً قد يكون جرح اغتيال الحاج عماد مغنية ساخناً لمخاطبة قيادة «حزب الله» بالمنطق وبصورة مباشرة.. بدلاً من التلميح والتورية.

مع هذا، اعتقد أنه رفقاً بلبنان وأهله أضحى من الواجب تسمية الأمور بأسمائها. وحسناً فعل الزعيم وليد جنبلاط في قول ما يجيش في صدور مئات الألوف من اللبنانين القلقين والمحبَطين إزاء استمرار قوى المعارضة التي يقودها «حزب الله» في ممارسة استكبار غير مسبوق بتعاطيها مع ما يزعم «الحزب» أنهم «شركاء في الوطن». فاللهجة الاستعلائية واللغة التخوينية والشروط التعجيزية التي غدا اللبنانيون معتادين عليها من «حزب الله» لا يمكن أن تحفظ الوطن. وهدر الدم ليس وصفة ناجعة لبناء علاقة تعايش حقيقي مع شركاء متساوين في حقوق المواطنية وواجباتها.. ولو كان بعضهم أقل عديداً وسلاحاً.

«حزب الله»، أولاً، لا يؤمن بمفهوم «الوطن» الذي يؤمن به «الشركاء».. بمن فيهم الشريك «البرتقالي» العوني الذي وقع معه «ورقة التفاهم» إياها. فهو حزب عقيدي ديني يسير على هدى «ولاية الفقيه»، ويعتبر السيد علي خامنئي مرشد الثورة الإسلامية في إيران «نائب المهدي».

وبما أنه حزب عقيدي ديني عالموي الأفق من الطبيعي جداً ألا يعترف بالحدود «القطرية» أو «القومية». وهو إن كان قد تقبل لبنان بحدوده الحالية ورضي مؤقتاً بتأجيل مشروعه الديني ـ السياسي المتكامل، فلإن «الظروف الكفيلة بإنضاجه غير مؤاتية راهناً»، كما ورد ويرد في أدبياته..

مع هذا، لا يقف «الحزب» مكتوف اليدين.. بل يسعى لتسهيل إيجاد تلك الظروف في شتى النواحي تحت ذريعة واحدة يصعب على أي لبناني شريف ووطني الاعتراض عليها.. هي «المقاومة». فباحتكار شعار «المقاومة» واستغلاله في الساحتين الداخلية اللبنانية والخارجية عربياً وإسلامياً، يتسنى لـ«حزب الله» اليوم ما يلي:

يمنع بقوة السلاح، الذي يحتفظ به ويوزّعه على «أدواته»، السلطة الشرعية من إعادة بناء دولة تعبّر عن تطلّعات جميع مكوّنات الشعب اللبناني، علماً بأنه التنظيم الوحيد الذي استثني ـ بذريعة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب ـ من بند نزع سلاح التنظيمات المسلحة غير النظامية في «اتفاق الطائف». وهكذا بحجة الحفاظ على السلاح يعطّل عمل مؤسسات الدولة، مانعاً انتخاب رئيس للجمهورية ورافضاً الاعتراف بشرعية البرلمان والحكومة، كما يهدر دم قادة القوى المعارضة له عبر رميهم بتهم «العمالة».. ليس فقط للولايات المتحدة بل لإسرائيل أيضاً!

بفضل سطوة السلاح والتعبئة الشعبية غير المسبوقة يفرض «الحزب» على الطائفة الشيعية هيمنة احتكارية، فيصادر قرارها ويفتح فجوة ثقة هائلة بينها وبين باقي الطوائف اللبنانية، مع أن الشيعة كانوا دائماً ركناً أساسياً من أركان الوطن، والأرض المعطاء التي أعطته نخبة من كبار نوابغه وروّاده وعقوله المستنيرة في شتى مجالات العلم والأدب والفقه والسياسة والفنون.

يشلّ «الحزب» ـ صاحب الموارد المالية الخارجية المضمونة شرعياً ـ الحركة الاقتصادية في لبنان، فيفلّس أعمالها ويهجّر الكفاءات واليد العاملة من الطوائف غير الشيعية مما يسّرع في إنجاز غاية التغيير الديموغرافي في البلاد. وبحجة «منع التقسيم والفدرالية» يعكف منذ مدة على شراء الأراضي في مناطق عدة حساسة من لبنان، قاطعاً وواصلاً بين هذه المنطقة وتلك في ما يتخوّف كثيرون أن يكون مقدّمة لعملية عزل ومن ثم تطهير طائفي. ويبدو أن هذه المسألة كانت في بال السيد حسن نصر الله عندما أعلن في أحد خطبه أنه بادر إلى دعوة العائلات الجنوبية التي هجّرها العدوان الإسرائيلي في صيف 2006 للعودة إلى قراها المدمرة حتى قبل إعادة البناء.. لقطع الطريق على «مؤامرة تهجير الشيعة» من الجنوب تمهيداً لتوطين الفلسطينيين!!

يمارس «الحزب» حملة إعلامية منظّمة بالتنسيق مع حلفائه الإقليميين كباراً وصغاراً لتغطية مشروع هيمنته المطلقة على لبنان. ولديه اليوم «ماكينة» إعلامية داخلية وعربية فعّالة جداً في مهمة التمويه والإرباك والتحريض.. أقوى بكثير وأغنى بكثير من إعلام خصومه السياسيين داخل لبنان.

حتى اللحظة نجح «الحزب» في التمويه على حقيقة مشروعه أمام الجمهور العربي، لكن الوضع يختلف الآن في الداخل اللبناني. ولهذا تجاوب جمهور «14 آذار» الموالي للدولة والشرعية مع ارتفاع نبرة الخطاب السياسي. وتحوّل شعور هذا الجمهور يوم الخميس الفائت من الإحباط وخيبة الأمل.. إلى الغضب والتحدي.

وإذا كان لا بد من كلمة تقال هنا، فهي أن بعض قيادات «14 آذار» أخطأت في تلكؤها عن الرد على التهويل.. بالفضح، وعلى التهديد.. بالتحدي، وعلى التخوين.. بالتخوين المضاد، وعلى التلويح بالهيمنة.. بالتهديد بالطلاق البائن. وهي تخطئ كثيراً بحق نفسها وحق جمهورها وحق البلاد إذا هي لانت.. وعادت إلى عبارات الملاطفة الكاذبة.

إن تقديم التنازل تلو التنازل لفئة ماضية في مشروع يهدف إلى إلغاء الآخرين لا يمكن أن يشبع نهمها.. بل على العكس سيطمّعها أكثر فأكثر.

لقد قال الله تعالى في كتابه العزيز «لا إكراه في الدين»، كما قال «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» (صدق الله العظيم) في تشريع الطلاق الذي هو عنده ـ عز وجل ـ «أبغض الحلال».. وهو أبغض ما يمكن أن يفكر به اللبنانيون أيضاً، ولكن، ألا يثير الاستغراب إصرار حزب يدّعي أنه «حزب إلهي» على الإكراه والفرض في كل ما يمتّ إلى التعايش بصلة؟!

أليس غريباً الإصرار على «زواج» مهدد يوماً بعد يوم، تحت وطأة التهديد والابتزاز، بفقدان أسس الرضى والتفاهم والاحترام المتبادل.. كي لا نتطرق إلى المشاعر العاطفية والمرتكزات الأخلاقية والمصلحية؟

هل تبنى الأوطان وتغطّى «المقاومة» بجلب الجميع قسراً إلى «بيت الطاعة الحزب اللهي»؟