«مغنية» بين أهل السماء وأهل الأرض

TT

أكثر ما يشد في تداعيات اغتيال عماد مغنية، هو طبيعة التوصيف والصورة التي رسمتها الأطراف والقوى المختلفة حوله.

فهو لدى حزب الله وإيران وسورية، وأتباعهم في لبنان من أمثال العونيين وجماعة وهاب وأرسلان وكرامي، بطل قديس مقاوم، ورمز الشهادة والجهاد.

وهو لدى آخرين، خصوصا الخليجيين، وبعض اللبنانيين والعرب، شخص محترف للإرهاب وخطف الطائرات والتفجيرات، وهو مخلب إيراني للترويع والتخويف، وهو «أكاديمية» متخصصة لتفريخ الجماعات، الشيعية، المتجاوزة للدول من طراز حزب الله في لبنان وجيش المهدي في العراق، ومجموعات العمل الإرهابي الشيعي في الخليج، على ما تعنيه الإشارة إلى دوره الأساسي في تفجيرات أبراج الخبر في السعودية سنة 1996.

مغنية أو الحاج رضوان أو الثعلب الشيعي أو بن لادن الشيعة، هو عنوان افتراق وليس عنوان إجماع، ولذلك كان من الطبيعي أن يكون دمه استمرارية لهذا الاختلاف والافتراق، لأنه سخر خدماته وحياته لخدمة رؤية ومشروع وخط هو موضع إشكال واختلاف في المنطقة العربية التي تعيش حالة مخاض طويل عريض حول حاضرها ومستقبلها، بين من يريدون تحويل الأرض العربية كلها إلى مقاومة وحرب وشهادة وكربلاء، كما في بعض شعارات المظاهرات الإيرانية التي هتفت بعد مصرع مغنية بأن لبنان كربلاء ... وبين من يريد أن يسير باتجاه آخر يتصل بالتنمية والاقتصاد والالتحام بالعالم المعاصر، أو كما يتم تكثيف هذه التقابلية المتضادة بعبارة: ثقافة الموت والحياة. على ما في هذه الثنائية المنحوتة من تزكية وهجاء، غير أنها عبارة شائعة وتوصيف ذائع يراد له اختصار هذا التصارع بين ثقافتين ورؤيتين، ثقافة حزب الله وحماس ومعهم سوريا وإيران، وثقافة 14 آذار والحريري ومصر والسعودية، هذه الثقافة المرحبة بالاستقرار والهدوء والسلام النافرة من النزعات الثورية وهوى الانتحار والبندقية...

لذلك فلا يجب أن ينتظر حزب الله ولا إيران ولا من يدور في فلك هذه الثقافة، مديحا واحتفالا بعماد مغنية، فهو بجهده وحياته ومماته يعبر عن مصالح طرف خصم هو إيران وجماعاتها، لا نقول هذا الكلام من منطلق الطائفية السنية الشيعية، فهذا أبعد ما يكون عن وجدان وهوى وعقل كاتب هذه السطور، بل من واقع توصيف وتشخيص حي للواقع، وإلا فإن إيرانية حماس والجهاد الإسلامي وعمر كرامي (عبر الوسيط السوري طبعا) لا تقل إلا قليلا عن إيرانية حزب الله وعبد العزيز الحكيم، ومن نعى عماد مغنية من القوى الأصولية الشيعية في الكويت، نعم في الكويت التي ذاقت ما ذاقت من الحاج رضوان...!

نحن نتحدث عن استخدام فج من قبل إيران الخمينية لكل وجود شيعي في العالم من أجل لصقه بالمصلحة الإيرانية البحتة، تحت شعارات مقدسة تحيل إلى دماء الحسين ورمزية كربلاء، أي إلى شعارات متعالية تستثير الوجدان الديني، في حين أن هذه مجرد شعارات تحفيز وتثوير، تصب نتائجها في نهاية الأمر في المحفظة السياسية الإيرانية، ولا تنفع الجماعات الثائرة بعيدا عن البر الإيراني.

لقد وصل الانقسام بين العرب إلى درجة عميقة جدا، ولم تعد تنفع عبارات المجاملة واللغو المكرر عن مصالح الأمة العربية وأحلامها وأهدافها، ولا جولات عمرو موسى وتصريحاته، فعن أي عرب نتحدث؟ عن عرب حزب الله وإيران وسوريا أم عن عرب مصر والسعودية؟ عن عرب الشهادة ومواكب الشهداء وثقافة المفخخات وإعلام الاستشهاد والحرب والموت لأمريكا، أم عن عرب العولمة والتعليم والتنمية المستدامة، عرب دبي أم عرب الضاحية الجنوبية؟

نحن في حالة افتراق واختلاف مزمن، وحينما يتحدث وليد جنبلاط، بصرف النظر عن الموقف من شخصيته وتاريخه، لكن حينما يتحدث عن استحالة التعايش مع ثقافة حزب الله، فهو يضع إصبعه على جرح مفتوح، مهما أغضب هذا الكلام جماعة النصر الإلهي ومن معهم من أيتام سوريا في لبنان، يكفي أن تثبت الريموت كنترول على شاشة «المنار» التابعة لحزب الله لمدة معينة، ثم تقيس شعورك بعدها، لترى كيف أنت محاط بحزمة من مناظر الشهداء والموت والتفجير والأناشيد المتغزلة بالانتحاريين، والمواد الإعلامية المسخرة كلها لغاية واحدة: تمجيد الموتى وترغيب الأحياء بالحذو حذوهم من اجل اللحاق بركب سيد الشهداء الحسين... وهكذا.. وهكذا... بينما لو نقلت الشاشة إلى مكان آخر، حتى ولو كانت قناة «ديزني» ستجد نفسك وكأنك خرجت من غرفة مليئة بالبخار الساخن والخانق إلى ارض فسيحة وهواء طلق، فيها الحياة كلها، والموت ليس هو سيد الشاشة الأسود.

ثقافة حزب الله، التي تحدث عنها جنبلاط، هي ثقافة موت، حتى ولو تذاكى بعض معممي الحزب وهو يتحدث قبل بعضة أيام على شاشة المنار، عن أن الموتى من مقاتلي الحزب هم ناشرو ثقافة الحياة، لأن الحياة الأخرى هي الأبقى والأدوم! حتى ولو قال ذلك فإن الواقع غير هذا، وامتدادا من هذه الثقافة المتعالية المستندة إلى مسوغ إلهي ونقاء سماوي، فهي، أي الثقافة الحاكمة للحزب الإلهي، استثناء في كل شيء وليست مثل البقية الخائضين في وحل الطين البعيدين عن نور الشهادة ونداء السماء، ومن مظاهر هذه الاستثنائية عدم التعويل كثيرا على الدولة والوطن، فهي تنشد شيئا أعمق، إنها تنشد الوحدة الإسلامية تحت شعار المرشد، قدس سره الشريف، وما هذه الدول والحدود إلا لوثة من لوثات الطين، وما نحن إلا مشاريع شهادة حتى يأذن الله بقيامة الحق وخروج صاحب الزمان، نعم هذه هي الثقافة المحركة التي تجعل شبانا متوقدين يتحولون إلى مجرد بنادق أو قنابل تتحرك بإشارة من السيد، أو بأمر من الحاج رضوان، كما فعل ويفعل نظراؤهم في الجانب السني من جنود القاعدة والجماعات الإسلامية من ربيبي السلفية الجهادية، إنهم أبناء السماء وليسو أبناء الأرض.

حينما قالت صديقة أم عماد مغنية لـ«الشرق الأوسط» أمس إنهم حتى ولو قتلوا عماد مغنية فسيخرج مئات آخرون كعماد، فهي ربما بالغت في الرقم، لكنها لم تبالغ في أصل التوقع، وهذه الإنتاجية الدائمة هي الضبط موضع العلة والخلل، وليست مناط الإشادة والفخر، كيف نفخر أو يفخر جماعة الحزب الإلهي ودراويشهم في الإعلام العربي بهذا السخاء في ولادة الانتحاريين أو معلمي الانتحاريين؟!

الخلل هو ـ في عمقه ـ خلل ثقافة ونمط تفكير، حتى ولو حرر حزب الله مزارع شبعا، وأخرج الأسرى من السجون الإسرائيلية، فلن يعني هذا تحوله إلى حزب مدني وتفكير مدني وخيال مدني، لن يتخلى عن هذه الثقافة ولن يتوقف مصنعه عن إنتاج عاشقي الموت والشهادة، لأنه في بنيته هو «مقاومة» كما قال سيده حسن نصر الله في لقائه الثنائي مع الجنرال «المتفاهم» ميشيل عون، ولكن موضع فخر السيد بطبيعة وبنية الحزب، هو تماما ما يجعل القلق من حزبه وثقافته سائغا.

حزب الله هذه المرة، ومعه رئيس الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، صعد من سقف الأهداف، وأصبح سلاح الحزب وثقافته متعلقين بإسرائيل نفسها، أي أن هدف سلاح الحزب، وبالتالي ثقافته واستثنائيته، هو إزالة إسرائيل من الوجود!

هكذا هتف السيد نصر الله بعد مقتل عماد مغنية بأن دمه سيزيل إسرائيل، ليأتي بعدها بأيام الجنرال جعفري ويقول لنصر الله في رسالة تعزية وتضامن بمغنية إن مقاتلي حزب الله سيزيلون«قريبا» الجرثومة الإسرائيلية، على ما نقلته «الشرق الأوسط» عن وكالة أنباء فارس.

إذن فسلاح حزب الله وثقافته دائمان، حتى زوال إسرائيل، وهي غاية تعجيزية، كشروط حزب الله في السياسة اللبنانية، وهو هدف مرهق ليس للحزب فقط بل للشعب اللبناني كله، إن لم نقل لسوريا نفسها التي لم تتبرع، وهي الدولة الكبيرة، بأن تتصدى لمهمة إزالة إسرائيل من الوجود.

دم عماد مغنية يعني زوال إسرائيل من الوجود، وقريبا...!

صدق حكيم المعرة أبي العلاء: هذا كلام له خبيء / معناه ليست لنا عقول!

[email protected]