عن مصر والمصريين.. وكرة القدم !

TT

ليس من السهل على كاتب يقوم بالتحليل السياسي أن يترك حادثا مثل اغتيال عماد مغنية بدون تعليق خاصة أن المشهد اللبناني قد التهب فجأة بالمظاهرات المليونية التي تعزى في الفقيد أو تحضر ذكرى الفقيد السابق الشهيد رفيق الحريري. والحقيقة أن الالتهاب لم يكن جماهيريا فقط بل أصبح سياسيا على أعلى المستويات وقد ألقى السيد حسن نصر الله بقفازه معلنا أن الحرب الآن قد باتت مفتوحة؛ وهي حرب على كل الأحوال لها فصول عدة بعضها يجري على أرض لبنان، وبعضها الآخر على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، وبعضها الثالث ممتد شرقا حتى إيران وربما جنوبا حتى الحدود المصرية، وأخيرا فربما كانت جزءا من حرب عالمية ممتدة منذ صباح الحادي عشر من سبتمبر 2001.

ولكن المشهد الذي جرى في مصر يوم العاشر من فبراير كان مختلفا تماما، فلم تخرج الملايين من أجل جنازة كما يجري في لبنان، ولا خرجت مئات الألوف لأنها عجزت عن توفير الغذاء والدواء كما حدث في غزة، ولا خرج الناس بالأعداد الغفيرة من أجل ثورة تزأر بهتافات السقوط للنظام واستنكار ارتفاع الأسعار، ولكن حدث ذلك نتيجة فوز في مباراة في كرة القدم. ومن الناحية العملية فقد استولت الجماهير المصرية على الشارع المصري منذ تمكن «الساحر» محمد أبوتريكة من تسجيل هدفه في مرمى الكاميرون حتى صباح اليوم التالي عندما وصل الفريق القومي المصري إلى الأراضي المصرية. وخلال هذه الساعات كانت مصر آمنة بأكثر من أي يوم مضى حيث لم تحدث حادثة واحدة، ولا جرى تصادم واحد، وعاد الناس إلى بيوتهم بالفرحة والسعادة كما لم يحدث منذ وقت طويل. والغريب في الأمر، أن عدوى السعادة أصابت بعضا من الأشقاء العرب الذين خرجوا يشاركون المصريين فرحتهم في العواصم العربية والأجنبية أيضا.

هذه الظاهرة «الكروية» و«الجماهيرية» ليست جديدة لا على مصر ولا على العالم، فالساحرة المستديرة كما يقال عنها لها تأثير مماثل في كل بلاد العالم حينما يرتبط الفوز الرياضي بالنزعة الوطنية للبلاد الفائزة. ولكن الأمر في الحالة المصرية اكتسب نكهة خاصة عندما أصبح جزءا من ظاهرة اجتماعية وسياسية أوسع ، ظهرت في النقاش والحوار الذي جرى حولها في الصحف والإعلام المصري. فمع الاهتمام الشديد بالبطولة الأفريقية جاء فورا رأي يقول إن في الأمر مؤامرة كبرى تقوم بها السلطة السياسية لإلهاء الناس عن مشاكلهم «الحقيقية»، التي تكفي وزيادة لقدر هائل من الإحباط. ولكن سرعان ما تبين أن الاهتمام ليس قاصرا على أجهزة الإعلام الرسمية المصرية، بل أنه امتد بكثافة أكبر إلى الإعلام الخاص والمستقل في مصر، ثم تجاوزها إلى الخارج في الإعلام العربي وحتى الأجنبي حتى أفردت كل منها استديوهات خاصة للتحليل والمناقشة والتعليق على رفعات الكرة وضربات الجزاء. لاحظ هنا أن بطولة الأمم الأفريقية جرت في ذات الوقت الذي جرت فيه أحداث غزة بكل تداعياتها المعروفة وغير المعروفة؛ ولاحظ هنا أيضا أن المباريات كانت تجري بالتوازي مع مصائب قومية تمثلت في وفاة علمين من أعلام مصر الناقد الادبي رجاء النقاش والكاتب مجدي مهنا. وفي الحالتين كان على المصريين أن يعطوا انتباها خاصا كان حاسما وقاطعا في حالة غزة: نعم للعون الانساني للأشقاء ولكن لا لجعل الحدود المصرية سداحا مداحا؛ كما كان رقيقا في حزنه عندما اشترك عشرات الألوف ومن كل التيارات السياسية بين الحكومة والمعارضة في جنازة من أصبحوا خسارة لكل المصريين. جرى ذلك ومعه استمر الاهتمام والتعبير عن الجيشان الذي تصاعد خطوة بعد خطوة مع استمرار المسابقة حتى وصل إلى نقطة الذروة يوم الحصول على الكأس للمرة الثانية على التوالي والمرة السادسة منذ بدأت البطولة في الخرطوم عام 1957.

ومن يعرف التاريخ فإن الخروج المصري هذه المرة لم يكن جديدا، فقد جرى مثله في مرات سابقة عندما حصل المصريون على كأس أفريقيا أو عندما ذهبوا إلى كأس العالم، ولكن الجديد كان في شكل المصريين سواء من حيث الملبس أو الشعارات والأغاني والأهازيج والشارات والعلامات. وببساطة كان هناك جيل مصري جديد يعلن عن نفسه تحس عندما تشاهده أنه يفعل ذلك من خلال وعي كامل أنه سوف يكون على كل شبكات التلفزيون العالمية والعربية والمحلية. هو جيل الفضائيات والكومبيوتر والمدونات والتليفون المحمول والتواصل الكوني والعولمة. فلم يكن في الأمر صدفة إطلاقا أن كثيرا من اللافتات كانت مكتوبة باللغة الإنجليزية، وعندما فعلها أبوتريكة خلال مباراة السودان وكشف عن قميصه طالبا التعاطف مع غزة كان يعرف أولا أنه سوف يسجل هدفا، وأنه ثانيا يتحدث إلى العالم أجمع. وعندما رفض «الساحر» بعد ذلك لأن يتحدث مع خالد مشعل الذي اتصل مهنئا وشاكرا فإنه كان يعرف تماما الفارق ما بين التعاطف الانساني والتيارات السياسية. كان اللاعب الذي لم يكن سياسيا قط يعرف الفارق بين الحالة الإنسانية والحالة السياسية التي أدت إليها في المقام الأول تماما مثل بقية المصريين الذين كان عليهم التعامل مع القضية الفلسطينية.

وبقدر ما كان الجيل الجديد له تعبيراته السياسية فإن تعبيراته الأكبر كانت اقتصادية واجتماعية فمن خرج إلى الشوارع كان أغلبهم من أبناء الطبقة الوسطى المصرية الجديدة. وهؤلاء إلى جانب الاحتفال بالنصر كانوا يقدمون لحظة وطنية صادقة ترتفع على كل التقسيمات بين الحكومة والمعارضة، والمسلمين والمسيحيين، وتمتزج كلها في سوق رياضية واحدة. وبشكل ما بدا المصريون تدريجيا وكأنهم يكتشفون علمهم، ومعه يكتشفون تاريخهم لأن فريق «الفراعنة» أصبح فورا جزءا من الحاضر. والغريب أن ذلك حدث بدون أي إخلال بالأصالة الحضارية لا العربية ولا الإسلامية، فلا اللاعبين توقفوا لحظة واحدة عن أداء الفرائض، ولا الدعاء لله في ساعات الفوز والحرج ولكنهم ـ على عكس الأجيال القديمة ـ كانوا يعرفون الخط الفاصل بين الأصالة والتعصب وبين التدين والتطرف.

هل نحمل الأمور بأكثر من طاقتها في مباريات كرة قدم جاءت وذهبت ومن بعدها سوف تعود الأمور إلى حالها؟ ربما يكون الحال كذلك وسوف تثبت الأيام عما إذا كنا إزاء أمر جديد يجري ليس في مصر وحدها وإنما ممتد عبر المنطقة العربية بأشكال متعددة؛ أو أنه لا يوجد جديد تحت الشمس، وأن منطقتنا لديها قدرة فائقة على إعادة إنتاج نفسها من جديد ؟. ولكن ما لا يمكن تجاهله في الظاهرة أن هناك عالما جديدا يغالب عالما قديما بامتداد المنطقة كلها، وبينما لا يزال العالم القديم يحمل فكر الاستقلال وما بعده من قضايا مزمنة لا تعرف حلا ولا تقدما ولا خلاص من أي نوع؛ وفقط تتغير الأسماء والأبطال جنازات الشهداء، فإن الجيل الجديد يجاهد لكي يجد لنفسه وبلاده مكانا تحت الشمس. وربما وجد هذا الجيل لنفسه مكانا في مصر في شكل مناسبة تخص كرة القدم، ولكنه يعبر عن نفسه كل يوم في آلاف المدونات الأكثر جرأة وشجاعة في تناول كل القضايا، وفي ميادين الإنتاج والأدب والفن، وذات مرة اشتعل في برنامج «ستار أكاديمي»، وهو منتشر كل يوم فيما نستهلك وما نتفاعل به مع العالم. تعالوا على أية حال نراقب الموقف، ونرى من يقرر مستقبل أمتنا هل جماعة الحرب المفتوحة، أم جماعة الحياة المفتوحة؟.