قاتل الله العشق وأيامه

TT

قال الأصمعي: بينما كنت أسير في البادية مررت بحجر كتب عليه البيت التالي:

أيا معشر العشاق بالله خبروا / إذا حلّ عشق بالفتى ماذا يصنع؟

فكتبت تحته:

يداري هواه ثم يكتم سرّه / ويخشع في كل الأمور ويخضع

ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت تحت هذا البيت:

وكيف يداري والهوى قاتل الفتى/ وفي كل يوم قلبه يتقطع؟

فكتبت تحته:

إذا لم يجد صبراً لكتمان سرّه/ فليس له شيء سوى الموت ينفع

فعدت في اليوم الثالث، فوجدت شاباً ملقى تحت ذلك الحجر ميتاً، ومكتوب تحته هذه الأبيات:

سمعنا اطعنا ثم متنا فبلغوا / سلامي إلى من كان للوصل يمنع

هنيئاً لأرباب النعيم نعيمهم / وللعاشق المسكين ما يتجرع

وبما أننا بهذا الصدد، صدد العشق والغرام واللوعة، وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فلا بد أن أحكي لكم عن واقعة حقيقية، هي أصدق مما ذكره الأصمعي، وكنت أنا (يا محاكيكم) طرفاً فيها، لم أكن عاشقاً ولا معشوقاً، لكنني صاحب الفكرة الصبيانية.

ففي أوائل السبعينات الميلادية، وقبل طفرة البترول الأولى، كان أغلب سكان المملكة لا يسافرون إلى الخارج ويقضون أشهر الصيف في مدينة الطائف الباردة، وكان هناك تقليد لمن كانت لديهم سيارات أن يذهبوا في عصر كل يوم إلى البراري يتنزهون، ويطلقون على ذلك التقليد مسمّى (تمشية).

ولاحظت أن هناك اثنين يحضران عصر كل يوم بسيارتيهما الفارهتين تحت إحدى التلال، وهما شخصان معروفان أحدهما شاعر ذهب إلى رحمة الله، والآخر ما زال حيا يرزق ويتقلد منصباً كبيراً.

وخطرت على بالي فكرة خبيثة استحسنها صاحبي، فذهبنا في الظهيرة إلى قمة ذلك التل، ووضعنا منديلاً أحمر مزركشا ظاهراً للعيان ومعه ورقة كتب عليها صاحبي، الذي يقرض الشعر، بيتين من الغزل العنيف موجهاً لهذين الشخصين، وزيادة في الخداع والتمويه رسمت أنا على الورقة علامة قلب مجروح واتبعها هو وطبع عليها قبلة من (براطمه) التي لونها بـ(روج) نسائي فاقع، وذهبنا في العصر ووقفنا بعيداً عنهما نراقبهما (بالدربيل) ـ أي الناظور المكبر ـ، فلفت نظرهما المنديل المهفهف بالهواء، فذهبا وأخذاه، وبعد فترة عادا ووضعا ورقة وسنداها بالحجارة، وعندما ذهبا بعد مغيب الشمس أخذنا الورقة، وإذا بها أبيات غرامية من الشعر موجهة للمرأة التي يعتقدان أنها معجبة بهما، وأخذنا على هذا المنوال نتبادل معهما أبيات الغزل (العذري)، ونشاهدهما عصر كل يوم وهما يتسابقان لقراءة ما كتبه صاحبي الذي تقمص دور العشيقة. وقد التقطت لهما بالكاميرا كذا صورة، وقد سولت لي نفسي الخبيثة أن (ابتزّهما) بتلك الصور، غير أن صاحبي هزأني على فكرتي تلك، بل انه أخذ تلك الصور مني ومزقها، رغم أنني اعتبرها إلى الآن وثيقة تاريخية لا يمكن أن تعوض.

وبعد أن تعبنا من كثرة التردد والضحك أجبرت صاحبي أن يكتب في النهاية أبيات وداع يدعي فيها انه أو (أنها) من شدة العشق والهيام زهدت بالحياة وقررت الانتحار.

وراقبناهما للمرة الأخيرة، ومازلت أذكر أن الشاعر منهما كان يمسح عينيه بمنديل من (الكلنكس) وهو يقرأ الأبيات، وأتمنى الآن ألا يقرأ مقالي هذا المسؤول الكبير الذي مازال على قيد الحياة، وله (شّنة ورّنة).

[email protected]