الرجل الذي قطع لسان المدينة

TT

تتناقل الصحف السعودية هذه الأيام خبرا لمقيم يمني قام بتعطيل الخدمة في 20 برجا لشركة الاتصالات السعودية، لتصمت الهواتف المحمولة في 23 حيا من أحياء مدينة جدة، وترجح بعض المصادر احتمال أن يكون الرجل مختلا عقليا، رغم المنهجية المنظمة التي اتبعها للقيام بكل تلك الأفعال، التي تتطلب الدخول إلى محطات الأبراج، وكسر الأقفال الخارجية لبوابة كل برج، ومن ثم العبور إلى محطة الكهرباء، والقيام بتحطيم العدادات لقطع الخدمة عن شبكة الهاتف المحمول، وهو ينتقل بعد ذلك بسيارة نقل عتيقة من برج إلى برج، ومن حي إلى آخر، بنفس الطريقة والأسلوب.. ومن الاحتمالات الممكنة أن الرجل يعاني من إشكالية نفسية لها ارتباطاتها بالهاتف المحمول، حاله حال تلك السيدة التي لا تمر بجوار دراجة إلا وتقوم بإفراغ دواليبها من الهواء، ولم تكن تعرف على مستوى الوعي الأسباب الدافعة لما تقوم به، فكل ما تعرفه أنها تجد متعة كبيرة في ذلك، وتنتابها حالة من الارتياح بعد أن تقوم بذلك الفعل.. وحينما خضعت السيدة لجلسات من التحليل النفسي، اكتشف المحلل أن الفتاة اختطفت حينما كانت في سن الرابعة من قبل أحد أصحاب الدراجات، وتعرضت لسلسلة من المتاعب قبل أن يتم إنقاذها، فغارت تلك الخبرة الأليمة في اللاوعي، ولم تعد تتذكرها، ولكنها ظلت من مكمنها توجه شحنات من الكراهية ضد كل الدراجات، التي ارتبطت إحداها بخبرتها الأليمة الغائرة في الأعماق..

ولا أحد يدري إن كان ضمن منظومة خبرات ذلك الرجل الأربعيني خبرة أليمة لها تشابكاتها مع الهاتف المحمول، ليغدو معها الهاتف رمزا مستهدفا تتمحور حوله شحنات الغضب والانفعال والكراهية، في زمن تحول فيه الهاتف المحمول إلى شيء حميمي مميز من بين كل المقتنيات لدى الكثير من الأفراد، حتى أن الفتاة اللبنانية التي ظلت على مدى يومين في عرض البحر تقاوم الأمواج والريح والمطر، حينما أنقذت أطلقت صرخة ألم كبرى تعبيرا عن فقد هاتفها المحمول، الذي يمثل مستودع أسرارها، وسجل علاقاتها، ورمز ذكرياتها الحميمة..

ومع صديقي المختص في علم النفس بعض الحق، حينما قذف بهاتفه المحمول في أعماق البحر ليريح ويستريح، وهو يقول: «لا أريد أن أتحول إلى مجرد رقم في ذاكرة هواتف الأصدقاء، ولا أريد لأصدقائي أن يتحولوا إلى مجرد أرقام يختزنها ذلك الجهاز الكئيب، فالعالم سيكون أجمل إن تحرر من أن يكون مجرد أصوات!».. ولله في خلقه شؤون.

[email protected]