احتجاج متأخر ضد منفلوط

TT

كان والدي يعطيني ظهر السبت ليرة واحدة تكفي يومها لحضور فيلم في إحدى دور ساحات البرج، ولأجرة «السرفيس»، ولقطعة من الكاتو امام سينما «دنيا». وكنت عندما اصل الى الساحة وارى الارصفة مفروشة بالكتب المستعملة، اشتري جزءا من كتاب «البؤساء» لفيكتور هيغو، وأعود دون حضور الفيلم او شراء قطعة الكاتو «الاكلير». وفي ايام اخرى كنت اكمل الطريق الى السينما ويكون شيء من نوع «البؤساء» او بكائية اخرى. كانت الناس تذهب الى السينما لتبكي احزانها وتقرأ الكتب لتزيد في حزنها حزنا. وكانت هناك اخوية سرية اسمها اخوية الحزن. الذين يفقدون أماً يبكون مع فاتن حمامة والذين تهجرهم حبيبة يبكون مع عبد الحليم حافظ والذين يريدون ان يغيروا الكون في حوالي ساعتين يقرأون نيتشه او جبران خليل جبران. واحيانا كنا نهرب من هذا المزاج فنذهب الى فيلم «كاوبوي» ونخرج منه ابطالا لا يعوزنا سوى الخيل والبقر والمسدسات.

كنا حزانى بلا سبب. تقريبا. وكنا متشائمين وسوداويين لأن الذين نقرأ لهم يعتبرون يومها ان الحزن واجب. وقد أغرق بعض الكتَّاب في الحزن حتى صار مضحكا. وكان مصطفى لطفي المنفلوطي يكتب الخطرات والعبرات والزفرات وكأنه يرش حديقة المنزل في منفلوط (الصعيد) بالدموع ويلقن بلابلها اصول الآهات. وفي إحدى قصصه القصيرة «اليتيم» لا يكون اليتيم فقط يتيما بل تكون حبيبته ايضا يتيمة وفي النهاية يموتان مثل روميو وجولييت ويتركان وصيتهما في عهدة الكاتب الذي من منفلوط والذي لم يترك أحدا من اشخاص قصته على قيد الحياة. ولو كان للقصة القصيرة مخفر شرطة لاعتقل ووجهت اليه تهمة القتل الجماعي مثل تشارلز تايلور. وكان المنفلوطي يحشو السرد آهات ودموعا حتى يصعب متابعة الحبكة والاحداث: «فدنوت منه وقلت: ما بك يا سيدي؟ قال، بي أني اطلب دمعة واحدة اتفرج بها مما انا فيه فلا اجدها» او هذه الملطمة: «في أي بطن من بطون الارض مضجعك يا بني، وتحت أي نجم من نجوم السماء مصرعك، وفي أي قاع من قيعان البحر مثواك، وفي أي جوف من اجواف الوحوش الضارية مأواك».

تريدون المزيد من منفلوط: «لو يعلم الطير الذي مزق جثتك، او الوحش الذي ولغ دمك، او القبر الذي ضمك الى احشائه او البحر الذي طواك في جوفه..».

تبدو كتابات المنفلوطي وكأنها مذكرات ناج من «التيتانيك». قاع وقيعان وأجواف. لكنه لم يكن المتشائم الوحيد. كان جيلنا ميالا الى الحزن والدنيا من حوله سعادة وهناء وطمأنينة. ولو عرفنا ماذا ينتظر الاجيال التالية لما ذرفنا دموعنا كلها فوق صفحات «البؤساء» وتشرد جان فالجان. ذكرني بأحوال واهوال هذا الجيل المفكر الدكتور انور عبد الملك في مقاله الاسبوعي. وما استطعت رد الاستذكار والمقارنة. ماذا فعلت بنا ايها المنفلوطي. ماذا فعلت يا امين غراب. يا يوسف ادريس. يا نقابة الادباء والروائيين.