المرض الأخرس

TT

اشرت في مقالتي السابقة إلى موضوع الاكتئاب، ذلك المرض الأخرس. وهو أخرس لأن أصحابه المبتلين به يتهربون من ذكره، وكذا يفعل ذووهم. فالفكرة هي انه نوع من الجنون. والفكرة التقليدية للجنون هي انه عيب يخجل منه الانسان. وننسى كل أولئك العباقرة المجانين من نيتشه الى فان كوخ وفاغنر الذين ساهموا في بناء حضارة الانسان. بيد ان الاكتئاب بصورة خاصة اصبح وباء المجتمع الغربي أخيرا، ففي بريطانيا مثلا، يتعرض له سنويا 13 ـ 14 مليونا، او نحو 7% من السكان. والمعروف ان 16% منهم يمرون به في حياتهم. ولهذا يوصف بالوباء ولكنه اخطر من أي وباء. فمن شأن الاوبئة انها تأتي كموجة وتنتهي. تصيب الانسان لردح من الزمن ويتخلص منها. ولكن لا حدود زمنية للاكتئاب. إنه موجود على مدى السنين ويعاود اصحابه كلما شاء. وهو يرهق المجتمع بتكاليفه المالية العالية، ومشاكله الصحية والنفسية. يموت به سنويا إما مباشرة بالانتحار او بصورة غير مباشرة عبر ما يؤدي اليه من امراض اخرى.

وهو كوباء شنيع مرهق، احتار بشأنه الباحثون. ما هي اسراره واسبابه؟ لماذا تفجر كالبركان في السنوات الأخيرة في العالم الغربي بصورة خاصة. لماذا ابتلي به الغربيون الآن؟ تفنن في تفسيره العلماء والاطباء. ولكنني يستهويني من طروحاتهم ما جاء به سيغموند فرويد رغم النقد الذي تعرضت له افكاره ونظرياته في التحليل النفسي. ارجع فرويد الإصابة بالاكتئاب الى عقدة الإثم. يعني بذلك ان الشخص المكتئب ارتكب شيئا مشينا، او اعتقد انه ارتكب شيئا مشينا في مطلع حياته وراح يعاني من شعوره بإثم ذلك. ومن هذا المنطلق، يمكنني ان اتوسع فأقول ان المجتمع الغربي الذي اصبح يعاني من وباء الاكتئاب، اخذ يشعر بآثامه تجاه ما ارتكبه من جرائم بحق البشرية. ومشكلة الغربيين هنا هي انهم اصبحوا يدركون مسؤوليتهم عن هذه الآثام. كانوا في السابق يعتقدون أنهم استعمروا العالم الثالث لإصلاح شعوبه المتخلفة وتحسين أوضاعها وتنصيرها. ولكن هذه الكذبة اصبحت الآن مفضوحة. ما فعلوه بالأفارقة من استعبادهم وبيعهم كرقيق، ما فعلوه في الشرق الأوسط بوعد بلفور، ما نهبوه من المستعمرات وبنوا به قصورهم الشامخة، ما تركوه وراءهم في افريقيا من اللخبطات والخربطات والعداوات، ما الحقوه في العالم من القتل والدمار في حربين عالميتين، ما فعلته قنابلهم الذرية بالمدنيين الابرياء، كلها من سوء افعالهم وجناياتهم. حتى هذا الارهاب العالمي ثمرة مما زرعوه.

بريستل من مدنهم الزاهرة المعتزة بقصورها الشامخة. كل ما فيها من شموخ بني على تجارة الرقيق التي احتكرتها في القرون الوسطى. ادركت بريستل مسؤوليتها ففتحوا فيها متحفا للرق. لم يفتحوا بعد متحفا لما فعلوه بالفلسطينيين، ولا ما فعلوه بالعراقيين.

أفلا يحق لي ان اقول ان جل هذه الامراض التي يعاني منها المجتمع الغربي، الاكتئاب والإدمان نتيجة من نتائج الشعور بالإثم؟