تنحي عميد حكام العالم .. ثمة تساؤلات

TT

ليس جديداً خيار التنحي في الجناح الثوري من دول العالم الثالث لكي نعتبر قرار التنحي الذي اعلنه الزعيم الكوبي المعمِّر فيدل كاسترو بنفسه يوم الثلاثاء 19 فبراير 2008، حالة جديدة غير مسبوقة، ذلك انه قبل التنحي الكاستروي، هنالك التنحي الناصري قبل واحد وأربعين عاماً. وكلاهما لم يكتملا، الأمر الذي يجيز لنا اعتبار صاحبيهما يريان ان التنحي الكامل يكون في لحظة الرحيل. ودليلنا على ذلك ما حدث لقرار التنحي الذي اعلنه الرئيس فيدل كاسترو وفي صيغة رسالة الى الشعب الكوبي من على صفحات جريدة «غرانما» وما حدث لبيان التنحي الذي قرأه الرئيس جمال عبد الناصر بنفسه مبثوثاً تلفزيونياً وإذاعيا.

ولأن عبد الناصر كان صاحب المبادرة الاولى في موضوع التنحي فإن التذكير بها يبدو ضرورياً ويشكل مدخلاً الى الحديث عن قرار تنحي كاسترو.

بعدما اتضحت معالم هزيمة حرب 5 يونيو 1967 قرر عبد الناصر يوم الخميس 8 يونيو وكان زمنذاك في الثامنة والأربعين، أي بينه وبين سن كاسترو المتنحي 34 سنة، ان يتنحى لوزير الحربية شمس بدران واتصل بصديقه وكاتب خطبه وبياناته وفلسفة ثورته وميثاقه محمد حسنين هيكل لكي يكتب له «خطبة التنحي». ولقد روى لي هيكل انه كتب في الخطبة عبارة «انني مستعد لتحمُّل نصيبي في المسؤولية»، لكن عبد الناصر عدَّل العبارة بخط يده لتصبح «إنني مستعد لأن أتحمَّل المسؤولية كلها».

ويضيف هيكل أن عبد الناصر اقتنع منه بأن التنحي لشمس بدران ليس الخيار الأفضل وعلى هذا الاساس استقر الأمر على التنحي لزكريا محيي الدين على اساس انه من أقدم الباقين من اعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 ومقبول من الغرب ولا جدال في وطنيته وسلوكه وسمعته.

ما ان انهى عبد الناصر قراءة خطبة التنحي مساء يوم الجمعة 9 يونيو وتضمينها قوله إنه سيناضل في صفوف الشعب، حتى نزلت الجماهير الى الشوارع مصدومة من جهة وخائفة من المجهول في الوقت نفسه مطْلِقة هتافات من بينها «أُرفض أُرفض يا زكريا». وكنت كصحافي يتابع الشؤون المصرية واحداً من عشرات مراسلين نزلوا بدورهم الى الشوارع ليتأكدوا مما اذا كانت «انتفاضة الرفض» للتنحي هذه عفوية أم انها تحدث ضمن سيناريو جرى إعداده في الساعات العشر التي اعقبت اقتناع عبد الناصر بضرورة ان يتنحى حفاظاً منه على وحدة الجبهة الداخلية بعد انهيار الجبهة العسكرية ثم تبين ان الجبهة الداخلية ربما تنهار اذا كان التنحي سيحدث بالفعل وهذا ما حمل عبد الناصر على ان يعود يوم السبت 10 يونيو عن التنحي ويواصل الحكم إلى ان توفي يوم 28 سبتمبر 1970 بعدما كان أنجز امرين أساسيين: الاول يتعلق بإعادة بناء الجيش وإفساح المجال من خلال القبول بمبادرة روجرز وزير الخارجية الاميركية في عهد الرئيس نيكسون امام مصالحة مع الغرب، ثم اتفاق سلام اسرائيل، تحقَّقا على يدي الرئيس الخلَف انور السادات. والثاني إنهاء المواجهة العسكرية في الاردن بين نظام الملك حسين والمقاومة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات وذلك من خلال قمة استضافها في القاهرة استحضر الاثنين إليها ومن دون ان يدري ان صحته في أسوأ حال.. وهذا ما تبيَّن بعدما كانت انتهت اعمال القمة وودع الملوك والرؤساء الذين شاركوا فيها وآخرهم امير الكويت الشيخ صباح السالم. وبعد هذا التوديع تم نقل عبد الناصر على وجه السرعة الى منزله وفي الخامسة عصراً توقَّف القلب الى الأبد.

أما بالنسبة الى كاسترو فإنه لا يتنحى طوعاً، أي بما معناه انه لو كان في استطاعته ممارسة الحكم سنوات اكثر لما كان قرر التنحي ولكان الرجل الذي يحكم كوبا منذ حوالى نصف قرن وبحيث يصح تلقيبه «عميد حكام العالم» بقي يواصل الحكم ويلقي الخطب التي كان بعضها يتجاوز الساعتين وقتاً من دون ان يتعب. ولكن الوضع الصحي قهر هذا الزعيم الاستثنائي الذي قد يبدو شكلاً انه صمد في وجه الدولة الأعظم الولايات المتحدة إلاَّ ان احوال بلاده بعد كل هذا الصمود ليست سارَّة. ولم يخفف من سوء هذه الاحوال على الصعيد الاقتصادي ان النجم الثوري النفطي هيوغو تشافيز رئيس فنزويلا اصطف بكل الحماسة والقدرات النفطية الى جانب ملهمه كاسترو آملاً ان يبايعه خليفة له في زعامة الجناح الثوري من اميركا الجنوبية.

وهذا التنحي للزعيم الكوبي التاريخي يطرح بضعة تساؤلات، من بينها ما يتعلق بطبيعة الخلافة وهل تكون وفق قاعدة اهل الثقة وبذلك تؤول السلطة الى الشقيق راوول وليس وفق قاعدة اهل الخبرة بحيث يتولى السلطة احد نجوم الحقبة الكاستروية. وفي حال ان «الرفيق راوول» الأصغر سناً من فيدل بست سنوات هو مَنْ سيُولَّى وبذلك يستمر فيدل كاسترو يحكم من على سرير المرض، فهذا يعني ان «الإقطاع الثوري» سيدخل قاموس اهل الحكم، وهنا نشير الى ان أسوأ ما في التجربة الكوبية انها كانت حكراً على الزعيم الأوحد وعلى زعيم آثر ان يبقى على إلحاده وعلى ماركسيته حتى بعد تساقُط الاتحاد السوفياتي الذي كاد كاسترو يورطه في حرب نووية مع اميركا. وحتى بعد مصالحة تمت بين بابا الفاتيكان وكاسترو وقيام الاول بزيارة الى كوبا الكاثوليكية وقوله «ان المسيحية تؤيد الاشتراكية وان السيد المسيح يقول بأن الاغنياء لن يدخلوا ملكوت الله» فإن كاسترو بقي على إلحاده ربما لأنه لم يمارس الطقوس الدينية المسيحية منذ نشأته وبذلك فإن من شب على شيء شاب عليه، وربما انتقاماً لا مبرر له من الفاتيكان بعدما اقصاه عن المذهب الكاثوليكي يوم 3 يناير 1962 وكان ذلك في عز الازمة بين الرئيس جون كينيدي والزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف.

ومن بين التساؤلات التي يطرحها ايضاً قرار التنحي هو: هل ان استمرار فيدل كاسترو يحكم 49 سنة ويبقى على قيد الحياة بعدما غاب عشرات الرؤساء الاميركان والسوفيات والعرب والأفارقة الذين ارتبط بصداقة وطيدة ببعضهم، ابرزها صداقته بالرئيس العراقي صدَّام حسين حتى ما قبل شنقه في ظل الاحتلال الاميركي وتحالف مع آخرين منهم... هل هذه الاستمرارية هي فِعْل قدرة استثنائية على الصمود او مهابة لشخصه فرَضَها على الغير.. وإلى درجة ان اميركا لم تفعل به وهو على مقربة بضعة اميال بحرية من شواطئها ما فعلَتْه مع نظام صدَّام حسين واحتلال العراق البعيد عنها الوف الكيلومترات، أم ان هذا التنحي سيكون مناسبة لكي تبدأ كوبا مرحلة جديدة من العلاقة مع الجار الاميركي وعلاقة حُسن نية مع دول القارة الجنوبية ومن دون ان تجاري «الرفيق تشافيز» في احلامه التي ما تحققت لغيره كي تتحقق له... أو لصديقه الآخر الرئيس محمود احمدي نجاد، وكلاهما تتحكم في نفسه العقدة الغيفارية مع ملاحظة ان تشي غيفارا غادر كوبا كاسترو حفاظاً منه على نقائه الثوري وبذلك احتفظ بمبدئية ان الثورة المتجددة تبقى اهم من التمسك بالحكم وإلى درجة عدم ترْكه إلاَّ بعدما يصبح المرء طريح سرير المرض يتم انعاشه بالمنشطات فاقداً القدرة الذهنية وهو ما حصل مع فيدل كاسترو طوال السنة التي سبقت قدرته على ان يكتب بنفسه رسالة التنحي ومن دون طمأنة الآخرين بأنه لن يواصل الحضور والتأثير ولو من خلال الكتابة في الصحيفة الرسمية «غرانما» التي نشر فيها «رسالة التنحي» وتحت عنوان «تأملات الرفيق فيدل» متطلعاً الى ان تكون مثل «الكتاب الاحمر» الذي وضعه ماوتسي تونغ.