تعريب «الهولوكوست»

TT

فجأة تصاعد الكلام عن «المحرقة» النازية، وكأن البشرية، نامت واستيقظت مبصرة في نومها الهولوكوست وضحاياه.

أحد أبطال الصحوة المفاجئة، الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي خرج على مواطنيه الأسبوع الماضي، بمشروع عجيب غريب، أثناء مأدبة عشاء أقامتها له الهيئة التمثيلية ليهود فرنسا. قال ساركوزي ومن دون مقدمات، انه واعتباراً من العام المقبل، سيتآخى طلاب كل صف من صفوف السنة الابتدائية الخامسة، مع أحد أطفال المحرقة الـ11000 الذين قضوا في المحرقة النازية. الخبر وقع كالصدمة على الفرنسيين، وما يزال يثير نقاشاً مدوياً. ليس هناك من يجرؤ طبعاً على رفض المبدأ، لكن الاعتراض هو على الأسلوب. ويتساءل التربويون والأهالي وعلماء النفس، والمؤرخون أيضاً، عن جدوى تعذيب أطفال في سن العاشرة، بقصص غرف الغاز، والعنف والقتل، وهل ستكون النتائج إيجابية؟ ولماذا على الأحياء أن يعايشوا الأموات، وهل بمقدورهم التفاعل معهم؟

المفاجأة الأكبر جاءت من إسرائيل، حيث اعترض متخصصون في تدريس الهولوكوست للأطفال على الكيفية، وتوجهوا إلى الفرنسيين بالقول: «نحن خبراء في الموضوع وبمقدورنا مساعدتكم، في إيصال المعلومات للأطفال، بأفضل السبل وأكثرها نجاعة». وما تزال النقاشات في فرنسا قائمة، لتدبر أمر هذا المشروع الذي نزل بمظلة، لا تعلم إلا إسرائيل ربما، من أين انطلقت؟ وأين ستحط؟

أما البطل الثاني، وربما الأهم، لهذه الصحوة الهولوكوستية فهو حامي حمى الثقافة في العالم، المدير العام لليونسكو الياباني كويشيرو ماتسورا. فقد زار إسرائيل مؤخراً ووقع مذكرة تفاهم، على رأس بنودها «تعزيز دراسة المحرقة النازية في الدول الأعضاء لليونسكو». مما يعني ان الدول العربية، باعتبارها جزءاً من المنظمة قد تكون مضطرة، بعد وقت ليس بطويل، لتجاهل شهدائها الذين يذبحون يومياً على أيدي الإسرائيليين، وصرف جهود باحثيها للتعمق في مأساة أناس قتلوا في أوروبا قبل أكثر من ستين سنة. وقد يظن البعض أننا نبالغ، لكن الهدف البعيد لإسرائيل بالإمكان قراءته على موقع أطلقته بالعربية، الهدف منه تقديم مرجعيات عربية وإسلامية، تؤكد خطورة انتشار اللاسامية بين العرب، هذا عدا مجموعة بحثية، هدفها رصد الظاهرة في العالم العربي للتصدي لها. وهو ما كتبه الزميل أسامة العيسة في تحقيق له نشر منذ أسابيع في المنتدى الثقافي لـ«الشرق الأوسط».

ونلفت النظر إلى أن اليونسكو باتت موكلة بما يسمى «نشر القيم الكونية المتعلقة بذكرى الهولوكوست». وليس خافياً على أحد أننا منذ ست سنوات نشهد احتفالات عالمية في ذكرى المحرقة، تنخرط في ركابها كل سنة دول جديدة، لم تعد قادرة على مقاومة الموجة.

هذه أخبار إسرائيلية، قد تبدو نافلة لو أن الفرد العربي، له بنية معرفية، وهوية ثقافية متينة. لكن كل أساتذة الجامعات والثانويات في منطقتنا العربية، لا بد يقدرون جيداً خطورة الهجمة على شعوب باتت تفتقد للحد الأدنى من مقومات الهوية.

فثقافة الهولوكوست التي بدأت تصبح كونية، وسندور قريبا في فلكها، على ما يبدو، لن نستطيع لها رداً. ومن تجربتي أقول إن طلابي في الجامعة لا يعرفون مثلاً، ترتيب الخلفاء الراشدين، ولم يسمعوا من قبل بالمصادر العربية الأولى، وأمهات الكتب، التي قامت على أكتافها حضارتنا إلى اليوم. وقد يغتاظ البعض، لأننا نعود للتاريخ، لذلك أؤكد أن غالبية هؤلاء الطلاب يأتون من المدرسة ولم يسمعوا أيضاً بأدونيس ومحمود درويش، فما بالك بتوفيق الحكيم أو سعد الله ونوس، وهم إن سمعوا لم يقرأوا لهم.

أنكى من ذلك، في بلد مثل لبنان، وصل فيه الاحتقان السني ـ الشيعي، ذروة خطرة، لا يعرف طلاب جامعيون في منطقة سنية، من هو الحسين وما هي قصته؟ ومن قتله؟ ولماذا؟ ولم يسمعوا بكربلاء إلا على قناة «المنار» التابعة لحزب الله، لكنهم لا يفقهون معنى الكلمة، أو خلفيات الاحتفال بكربلاء. ورغم أن وليد جنبلاط، أنهكنا بالكلام على الفرس بدل استخدامه للفظة «إيران»، ويستعيد مرجعيات قديمة من الزمن العباسي في الكثير من مقابلاته، إلا ان اللبنانيين، بحسب ما تلمست، لا يدركون وبغالبية يصعب تجاهلها، الخلفية التاريخية التي يتحدث عنها هذا الزعيم، وآخرون من جماعة 14 آذار، إلا ان هذا لا يمنعهم من التصفيق.

والمأساة الأكبر، أنني حين سألت الطلاب ما هو التاريخ الذي درسوه في المدرسة، كان الجواب ببساطة: تاريخ لبنان. فهم يعرفون المعنيين والشهابيين، والذين مروا في لبنان الحديث، لكن ماذا كان يحدث في لبنان، وجواره قبل 200 سنة، يبدو أن التاريخ يتوقف هنا.

ومن تجربة مع طلاب غير لبنانيين، يبدو أن الكارثة عامة، فاللغة العربية ليست وحدها التي دمرت، ولكن الذاكرة ايضاً. فكل يعرف تاريخ دولته القطرية، وإن توسع قليلاً، فليس بالقدر الذي يسمح له برؤية المشهد الذي يحيط به، ويسبقه، بشمولية كافية. وحين تسأل هؤلاء الطلاب: «ألا تحبون أن تعرفوا من أين أتيتم؟ وإلى أين أنتم ذاهبون؟ ولماذا تفكرون بهذه الطريقة وليس بغيرها، وعمن ورثتم هذه الذهنية التي تملي عليكم، يومياتكم واجتماعياتكم؟ عندها سترى تعجباً كبيراً، وجواباً ليس له ثان: «لم يعلمونا في المدرسة»!

ونحن هنا، لا نطلق حملة ضد ساركوزي لأنه يعتبر الهولوكوست أولوية تربوية لأطفال بلاده، ولا الياباني ماتسورا الذي يصنف نفسه صديقا لإسرائيل، ولا طبعاً إسرائيل التي وجدت لتدافع عن استمرارها، وإنما نتمنى فقط لو تنطلق حملة متواضعة ضد التجهيل والتعمية، وضد اعتبار حياة أي دولة عربية، تبدأ من خمسين سنة أو أكثر قليلاً، فيما يغض الطرف عن تاريخ طويل للمنطقة، ما تزال أحداثه تتشابك حتى يكاد الماضي، يصبح حاضراً.

اعتبر أرييل شارون، قبيل غيبوبته، أنه بسبب المحرقة النازية ما عاد ليهود العالم أي مكان آمن يحتمون فيه غير إسرائيل. وبالتالي، فنشر ثقافة الهولوكوست وتعميمها، هما إحدى الاستراتيجيات الإسرائيلية الأساسية التي تؤمن الدعم العالمي لاستمرارها. لكن رجاء ما هي الاستراتيجية الخفية وراء محو ذاكرة أجيالنا الجديدة وتجهيلها؟!

[email protected]