إسبرطة وأثينا على سطح واحد

TT

قيل الكثير عن ذلك اليوم اللبناني بامتياز، يوم تجاور طرفا النقيض السياسي في لبنان، ظهرا الى ظهر، على أرض واحدة في بيروت في 14 فبراير (شباط) الحالي. ولكن إن جاز اطلاق صفة عامة على التجمعين. يجوز القول إن ما احتضنته ساحة الشهداء كان «بيروت ـ أثينا» الداعية الى الديمقراطية والتعددية وسيادة الدولة، وما شهدته الضاحية كان «بيروت ـ إسبرطة» الذاهبة الى الحرب المفتوحة ضد اسرائيل على كل الجبهات المتاحة في العالم.

ُكتب الكثير عن تلك الهوة المتسعة باطراد بين «الاستقلاليين» من دعاة استعادة سيادة لبنان وقراره الداخلي، وبين «التبعيين» من دعاة النظام الاصولي وعودة الوصاية السورية على لبنان، وإن بالوكالة.

ولكن ما لم يعط حقه بالذكر في هذا السياق هو أن الفجوة المتسعة بين لهجة الخطاب السياسي في ساحة الشهداء ولهجة الخطاب الحربي في الضاحية الجنوبية لا تعكس تباينا في الاهداف الآنية لطرفي النزاع اللبناني بقدر ما تؤشر عن «طلاق» متنامٍ بين ذهنيتين ـ كي لا نقول مدينتين.

على خلفية تهديد خطاب الضاحية بالويل والثبور وعظائم الامور، بدت شعارات الديمقراطية والسيادة والحرية التي طرحها «الآذاريون» في ساحة الشهداء أقرب الى الرومانسية السياسية منها الى واقع هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان، علما بأنه إذا كانت ثمة رسالة لتجمع ساحة الشهداء الحاشد في ذكرى اغتيال رفيق الحريري فقد تكون في ابلاغ الشارع قيادات «14 آذار» أن «لأثينا» عهدها و«لاسبرطة» عهدها أيضا، وأن الاستمرار في مواجهة مشروع الدولة الاصولية ـ الشمولية بشعارات رومانسية وتنازلات سياسية يؤسس لانهيار «أثينا».. لا قيامها.

رسالة حشود ساحة الشهداء تبلغتها بوضوح قيادات «14 آذار»، وتأكيد الأمانة العامة لقوى «14 آذار» ـ في البيان الموجه الى جماهير مهرجان ساحة الشهداء ـ عن ان «الرضوخ للابتزاز بات من الماضي» يوحي بأنها تعود، وإن متأخرة، الى الامساك بزمام المبادرة في الازمة اللبنانية. وهذه العودة باتت ملحة بعد ان لخصت حشود ساحة الشهداء وخطاب الضاحية الجنوبية، جوهر الازمة اللبنانية: إما الدولة المركزية الممثلة لكل ابنائها والقادرة على اتخاذ قراراتها المصيرية داخل مؤسساتها الشرعية، أو «الساحة» المباحة لدويلات الآخرين على أرض لبنان.. توطئة لعودة حروب الآخرين على هذه الارض.

قد يكون صحيحاً ما قيل عن لبنان بأنه أصغر من أن يُقسم وأكبر من ان يُبتلع. ولكن خطاب إعلان «الحرب المفتوحة»، سواء في لهجته أو في أبعاده، يجب ألا يفوت عن انتباه أي لبناني يتطلع الى العيش في دولة يضمن نظامها السياسي مشاركته في قراراتها المصيرية، ولو في حدها الادنى.

وإذا كان الاستئثار بالقرار المصيري في لبنان من قبل حزب الله منذ حرب صيف عام 2006. وإذا كانت هذه النزعة الشمولية في التصرف السياسي للحزب غير خافية على اللبنانيين عامة، فقد آن الأوان لأن تثير انتباه بعض حلفاء الحزب من النواب الغيورين على النظام التعددي في وطنهم، واستطراداً على دورهم البرلماني، وتحملهم اعادة تقويم ضميري لتحالفاتهم السياسية. (والمؤسف على هذا الصعيد، أنه باستثناء إعلان النائب غسان مخيبر رفضه حرب حزب الله «المفتوحة» على اسرائيل، لم يسجل أي ارتداد ضميري في مواقف النواب العونيين الآخرين).

من هنا أهمية دعوة قوى «14 آذار» الى العودة لتسلم المبادرة في الازمة اللبنانية، فتذكير حزب الله بانه لا يزال يغرّد، منفرداً، على «الساحة اللبنانية» ويستأثر بقرار الحرب والسلم ـ وبالتالي مصير كل اللبنانيين، دون استشارة أي منهم أو حتى تبليغهم مسبقا بقراره ـ يعني ان حرب صيف 2006 مرشحة لان تتكرر في أي لحظة يرى فيها حزب الله و«حلفاؤه» الاقليميون، مصلحتهم في ذلك، كما يوحي بأن حروب الحزب تشن، إذا اقتضى الامر، لأسباب حزبية فحسب ـ كالثأر لاغتيال عماد مغنية ـ لا علاقة لمصلحة اللبنانيين، كل اللبنانيين، بها.

باختصار، حان الوقت لأن يثبت «الآذاريون» بان لا مجال بعد اليوم لتعايش اسبرطة وأثينا على سطح واحد في لبنان.