إلى ساركوزي.. العدل أساس الحكم يا فخامة الرئيس

TT

شغلنا كل هذا الأسبوع بتداعيات القرار الذي اتخذه الرئيس نيكولا ساركوزي والقاضي بتعليم مأساة الأطفال اليهود، الذين ماتوا في المحرقة الشهيرة، إلى أطفال فرنسا الحاليين وتلامذة المدارس الابتدائية. وقد انقسمت الطبقة السياسية والثقافية الفرنسية الى مؤيد ومعارض. وكان المعارضون أكثر من المؤيدين، حتى داخل صفوف الشخصيات اليهودية نفسها، أو على الأقل لدى المستنيرين والمعتدلين فيها. أمامي وأنا أكتب هذا المقال عريضة موقعة من قبل جان دانييل، الذي يمثل الضمير اليهودي العقلاني في فرنسا، وهو يناشد فيها رئيس الجمهورية أن يتراجع عن قراره هذا لأنه يقسم الطوائف في فرنسا ويثير حزازات بعضها على البعض الآخر. وقد وقعتها معه شخصيات ضخمة غير يهودية، من أمثال رئيس المفوضية الأوروبية السابق جاك ديلور، والمفكر الشهير ريجيس دوبريه، وعالم الاجتماع الكبير آلان تورين، والمؤرخ الكبير جاك لوغوف، وبعض الشخصيات الأخرى.

من الواضح أن الرئيس، على ذكائه، تسرع وتورط بهذا القرار. انه يمثل غلطة الشاطر بالنسبة له. فما معنى أن أنبش من أعماق الزمن وقبل ستين سنة كابوس الذكريات السوداء المؤلمة لأحد عشر ألف طفل يهودي قتلوا في المحرقة النازية، وأجبر طلاب المدارس الابتدائية على الانشغال بها؟ انه لشيء مرعب ومزعزع نفسيا ان تطلب من أطفال صغار بعمر الورود ان يهتموا بقصص فجائعية مخيفة من هذا النوع.

عندما دعاني الاستاذ توفيق مجيد من القسم العربي في قناة فرنسا الرابعة والعشرين عبرت عن غضبي واستيائي، حتى قبل أن أقرأ هذه العريضة الاحتجاجية لكبار مثقفي فرنسا. ولكن كان الوقت ضيقا جدا، ولم أستطع أن أتحدث عن الموضوع أكثر من ثلاث دقائق. وبالتالي فسوف أقول هنا كل ما لم أستطع قوله هناك على شاشة التلفزيون.

ينبغي العلم بأن قرار الرئيس هذا تلاه قرار آخر لا يقل خطورة، ألا وهو: مداهمة الشرطة لبعض أحياء المهاجرين العرب والقبض عليهم تحت أضواء التلفزيون لكي يشاهدهم العالم أجمع! وبالطبع فقد ربطت الجالية العربية الاسلامية في فرنسا بين الحدثين، واعتبروا ان الرئيس يريد مجاملة اليهود لكسب ودهم ومعاقبة العرب في ذات الوقت.. لماذا؟ لأن شعبيته انهارت مؤخراً بشكل مقلق ولم يجد طريقة لاسترجاعها إلا هذه الطريقة المحزنة والبائسة في نهاية المطاف. الرئيس يعلم قبل غيره ان مشكلة الضواحي اقتصادية واجتماعية وفقر مدقع، وبالتالي فالحل الأمني لا يكفي على الاطلاق وإنما ينبغي ان يرافقه او يتلوه حل إنساني. ينبغي على الدولة ان تبلور خطة مارشال اقتصادية كبيرة لإنقاذ الضواحي وإلا فإنها ستنفجر مرة أخرى.

الكل يعلم هنا ان من يستحق الشفقة والرثاء ليس الطائفة اليهودية الكريمة، التي لا ينقصها شيء عموماً، وإنما الجاليات المهاجرة والمهمشة والمحتقرة من مغاربة وأفارقة سود بالدرجة الأولى. وبالتالي فالمضطهد الحقيقي في فرنسا لا أحد يهتم به، وغير المضطهد يحظى بكل أنواع العناية والرعاية! وضع مقلوب ومعكوس تماماً. ولا ريب في ان قرار الرئيس بنبش قصة المحرقة من جديد سوف يزيد من حقد هؤلاء العرب والمسلمين والأفارقة البائسين على اليهود أضعافاً مضاعفة. ولهذا السبب بالذات سارع جان دانييل إلى كتابة هذه العريضة والتوقيع عليها ورفعها إلى رئيس الجمهورية، مترجياً اياه لكي يتراجع عن قرار سوف يؤدي إلى عكس النتيجة المتوخاة منه وسوف يضر باليهود بدلاً من ان ينفعهم.

يضاف إلى ذلك ان الحديث عن المحرقة الاجرامية التي ارتكبها النازيون وأعوانهم يملأ وسائل الاعلام الفرنسية من أقصاها إلى أقصاها منذ اربعين سنة وحتى هذه اللحظة. لا يكاد يمر يوم واحد بدون الحديث عن المحرقة. يحصل ذلك إلى درجة ان الناس ملوا وضجروا من هذا الموضوع. ولو كنت يهودياً لطلبت من وسائل الاعلام التوقف عن إثارة القصة لأن الشيء اذا زاد عن حده انقلب الى ضده!

الرئيس ساركوزي سوف يتوجه إلى المنطقة في شهر مايو القادم وسيلقي خطاباً مهماً أمام الكنيست الاسرائيلي. وسوف يزور فلسطين المحتلة. ونتمنى عليه بهذه المناسبة ان يفكر ايضاً بأطفال المحرقة الأخرى الناتجة مباشرة عن المحرقة الأولى.. أي أطفال فلسطين الذين يموتون مع عائلاتهم تحت القصف الرهيب للآلة العسكرية الاسرائيلية. فالعدل أساس الحكم يا فخامة الرئيس. وفرنسا هي بلد التنوير والثورة الفرنسية التي صدَّرت إلى العالم كله الاعلان الشهير لحقوق الانسان. وبالتالي فالاهتمام بالأطفال الأحياء الذين يمكن إنقاذهم لا يقل أهمية عن الاهتمام بالأطفال الأبرياء الذين ماتوا قبل ستين سنة. لقد آن الأوان لكي يهتم قادة الغرب بضحايا كلتا المحرقتين.

يضاف إلى ذلك ان ساركوزي سيكون رئيساً للاتحاد الأوروبي بدءاً من يونيو القادم، وسيعقد مؤتمراً كبيراً في الصيف لرؤساء أوروبا والاتحاد المتوسطي. وبالتالي فأمامه فرصة عظيمة سانحة لكي يقنع الاسرائيليين بالمبادرة العربية ويعزّز فرص السلام. وهذه هي أكبر خدمة يمكن ان يقدمها للعرب واليهود في آن معاً.