كيف ؟!

TT

لم تتنزّل الأديان والشرائع من ربّ العالمين على الأنبياء إلاّ من أجل حماية الإنسان من أخيه الإنسان، ومع ذلك كله، ومع كلّ عشرات أو مئات الرسل والأنبياء الذين بعثهم الله لهداية البشر، مازال البشر يتقاتلون بين بعضهم البعض، ومازالت البشرية تتفنّن وتُبدع في وسائل القتل والدمار، من الساعد، إلى الحجر، إلى الرمح، إلى السيف، إلى النبل، إلى المنجنيق، إلى الرصاصة، إلى القذيفة، إلى القنبلة الذرية.. وبكل الوسائل المتاحة، من القدم، إلى الحصان، إلى العربة، إلى الدبابة، إلى الطيارة والبارجة والغواصة والصاروخ العابر للقارات وللفضاء أيضاً.

وبهذه المناسبة (القتالية)، لفتت نظري قصة ضابط بريطاني صغير كلف بمهمة استطلاع لموقع ألماني إبان الحرب العالمية الثانية وبرفقته أربعة جنود، ويقول: حينما وصلنا إلى قمة لسان من الأرض يطل على واد صغير، همس أحد جنودي نحوي وهو يزحف ويشير بيده قائلاً: ألماني، ونظرت ناحيته وكان مديراً لنا ظهره، ومعتمراً خوذته التي تحتها شال يقيه من الصقيع، ومازلت أذكر عنقه الغليظ والشامة الواضحة خلف أذنه، فأشرت لجنودي علامة أن اتركوه لي، ثم صوبت بندقيتي نحوه وكأنه هدف في ساحة التدريب، ولم يكن يبتعد عني أكثر من 40 متراً، وأغمضت إحدى عيني، ونظرت بالأخرى إلى هذا الإنسان المجهول الذي لم يكن في استطاعتي أن أرى وجهه، ولكني ما كدت استعد لجذب الزناد حتى بدأ الألماني يقفز حوله وهو يطوح بذراعيه كالدب، وأحسست بالذهول، وأدركت أن ما كان مجرد هدف أمامي إنما هو إنسان مثلي يعاني من البرد.

كنت متردداً، أصوّب البندقية ناحيته ثم أتراجع، كرّرت هذه العملية خمس مرات إلى درجة أن أحد جنودي طلب مني أن يقوم هو بالمهمة، غير أنني منعته عندما سمعت ذلك الألماني يردد أغنية عاطفية لم أفهم كلماتها ولكنني ظننت أنه اشتاق لحبيبته مثلما اشتقت أنا، لهذا تركته، وأمرت جنودي بالانسحاب قائلاً لهم: لقد أنجزنا مهمتنا وعرفنا أين توجد خطوط مراقبة العدو.

وفعلاً شنّ البريطانيون هجوماً على ذلك الموقع واحتلوه، وأسروا مجموعة من الألمان.

وانتهت الحرب، وفي أوائل الخمسينات بدأ السياح يتقاطرون على لندن وبينهم ألمان، وتعرّف ذلك الضابط البريطاني الذي ترك الخدمة العسكرية، على شاب ألماني ونشأت بينهما صداقة، وفي إحدى الليالي ذهبا إلى أحد المراقص في حي (سوهو)، وبعد أن خرجا تعرّض لهما ثلاثة من البلطجية يريدون سرقتهما، ونشبت بين الجميع معركة تلقى البريطاني خلالها طعنة في كتفه وأخرى في رأسه، ولولا الألماني القوي والشجاع لكان قد قضي عليه، تدخل البوليس واقتادوا الجميع للتحقيق، وبينما كان الألماني مديرا ظهره للبريطاني وشعره الطويل منزاح عن أذنه وإذا به يشاهد الشامة الكبيرة التي خلفها.. ويقول: بعدها تيقنت أنه ذلك الجندي الذي كدت أقتله وكان وقتها حليق الرأس.

وعندما خرجنا وسألته عن موقعه في ذلك التاريخ تحديداً، وإذا بمعلوماته تؤكد أنه هو فعلاً.

ويختم البريطاني كلامه قائلاً: لو كنت قد عرفت هذا الرجل كما بدأت أعرفه الآن لما كنت أطلق عليه النار قط.

إن الإنسان يستطيع أن يقتل جندياً من الأعداء إذا كان إنساناً آلياً لا وجه له ولا اسم، ولكن كيف يمكن أن يقتل الإنسان نجاراً أو مزارعاً أو رساماً أو عالماً، رجلاً له أطفال وزوجة وأم؟!، وقد يكون جائعاً أو يحسّ بالبرد، رجلاً يعيش في الحزن أو الأمل، ويشاركنا هذه الأرض وهذه السماء.. كيف؟!

[email protected]